من بين الأمور التي استوقفت من كتبوا عن المرحوم سالم يفوت، إثر وفاته، ما دعاه البعض «عزوفه عن السياسة»، بل إن منهم من رأى في الاهتمام الذي ما فتئ يوليه، بعد تجربة السجن القاسية، لمبحث الإبيستمولوجيا، تأكيدا لذلك العزوف، ونتيجته الطبيعية. ولعل تصوراً معيناً عن الإبيستمولوجيا قد يزكي هذا الرأي. إذ لا ينبغي أن ننسى أن الاهتمام بقضايا العلم وفلسفته قد اعتبر، لمدة غير قصيرة، مبحث الوضعيين بلا منازع، وملجأ كل من يهوى التحليل المجرد والوصف «البارد». طبيعي إذاً أن يقال عمن كان ينخرط انخراطاً كلياً في النضال السياسي، وينتظم في نشاط حزبي وينضوي انضواء لا يعرف الفتور، إنه، عندما توَجَّه بكل اهتمامه نحو البحث الأكاديمي، والإبيستمولوجي على الخصوص، طلق السياسة وتحصن بالمعرفة العلمية وفلسفتها. لا يخفى أن كل هذا يظل رهيناً بما نعنيه اليوم بالإبيستمولوجيا، وبالأخص بما نعنيه بالنضال السياسي والانضواء الفكري. لا ينبغي أن ننسى أن تفتح المرحوم على العلوم وفلسفتها كان في بداية السبعينات من القرن الماضي، أي في فترة عرفت رواجاً كبيراً للهزة التي تمخضت عن إعادة القراءة التي قام بها لوي آلتوسير وجماعته للفكر المادي الجدلي، وأن آلتوسير نفسه، الذي كان أحد تلامذة غاستون باشلار، جاء من الحزب الشيوعي، ولكن أيضاً من الإبيستمولوجيا. ولعل من أهم إسهامات المفكر الفرنسي في هذا الباب كونه تمكن من أن يعيد النظر في ما رسخته القراءات التقليدية للماركسية عن مفهومي البراكسيس والنظرية، فقام بخلخلة هذا الثنائي، ونحْتِ مفهوم الممارسة النظرية، وإعادة النظر في علاقة الفلسفة بالسياسة. وقد كان من نتائج كل ذلك نقل مفهوم الجهوية الذي وظفه باشلار في حقل فلسفة العلوم، إلى مجالات أخرى، لعل أهمها مجال النضال السياسي. وهكذا تبين أن تكريس قيم العقلانية لا يمكن أن يتم إلا قطاعياً، كما اتضح، أن من بين أشكال تحويل الواقع تحويل النظرية كذلك، وتحويل المفهوم الذي كرسه التقليد عن الواقع (وينبغي أن نسجل هنا أنه ليس من قبيل الصدفة أن ينصب موضوع أطروحة المرحوم للدراسات العليا بالضبط على المفهوم الاختباري عن الواقع). بهذا المعنى ستتعدد جبهات النضال السياسي تعدُّد قوى المقاومة التي تتخذ أشكالاً متنوعة وتتحصن بتاريخ العلم مثلما تتحصن بالقلب الأيديولوجي والعنف السياسي. ولن يعود العزوف المزعوم، والحالة هذه، سوى استبدال لنضال ضيق يضع نفسه يساراً ضد يمين مطلق، بنضال جهوي قطاعي يتصيد الأوثان أنى وجدت، ويتعقب الأوهام كيفما كان لبوسها. * كاتب مغربي