ما هي مناهج دراسة العلم؟ لغويا "الإبيستمولوجيا" لفظة يونانية مركبة من جزأين "إبيستمي" وتعني المعرفة والعلم. و"لوغوس" وتعني الخطاب أو القول والمقصود هنا الخطاب أو القول المعقول المنطقي. وبهذا تكون الإبيستمولوجيا هي الخطاب العقلاني حول المعرفة والعلم. من هذا الجذر اللغوي تشكّلت ثلاث اتجاهات في استخدام هذا المصطلح: أولا: يراد بالإبيستمولوجيا التفكير حول العلم:أي إنه قسم من الفلسفة يتفكر الخطاب العقلاني فيه حول المعرفة العلمية نقدا وتصنيفا وهي بهذا الاعتبار تساوي "فلسفة العلوم" وهذا هو الاستخدام الفرنسي غالبا. ثانيا: تعني الإبيستمولوجيا: نظرية المعرفة.فالسؤال عن ماهية المعرفة وعن شكلها وأسلوبها ونمطها الخاص وحدودها ومقدماتها. وهذا هو الاستخدام السائد في الإطار الإنجلوساكسوني ونلاحظ هنا أن هذا المفهوم أشمل وأوسع من المفهوم الأول فهو يتعدى فلسفة العلوم إلى فلسفة المعارف كلها. ثالثا: استخدام الإبيستمولوجيا بمعنى علم نظم الفكر، وهو المعنى الذي سنستخدمه هنا في هذه المقالة. وهو يعني النظام الفكري الذي يسيطر على ثقافة ما في حقبة تاريخية محددة. ينسب هذا المنهج للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ( 1926- 1984 ) فقد مارس من خلاله البحث في الحضارة الأوروبية في أكثر من قضية. ففي كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" درس فوكو تشكل خطاب معرفي جديد عن الجنون في الحضارة الأوروبية هذا الخطاب هو نتيجة لنظام معرفي شامل أصبح ينبذ الجنون وينفيه ويستبعده إلى المستشفى/ السجن بحجة العقل. وفي كتابه الكلمات والأشياء قسّم فوكو الفكر الغربي إلى ثلاث حقب تاريخية انطلاقا من تشكل نظام معرفي خاص بكل حقبة، فعصر النهضة يتأسس على نظام "التشابه" مما يعني أن فهم خطابات هذا العصر لا يمكن فهمها إلا انطلاقا من هذا النظام فهي بمثابة المقدمات أو الأسس التي ينطلق منها التفكير وتتشكل بالتالي من خلالها الخطابات المعرفية والسياسية والفنية... إلخ. يلي عصر النهضة العصر الكلاسيكي، المتمثل بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، ويسود في هذا العصر نظام "النظام والترتيب"، أما العصر الحديث، القرن التاسع عشر، فأصبح التاريخ أو الإنسان التاريخي هي المقولة الأساسية في هذا العصر. يؤكد فوكو أن الإنسان لم يكن موجودا قبل القرن الثامن عشر بمعنى أنه لم يكن هدف التفكير ولا منطلقه الأساسي أي أن تفكير الإنسان لم يكن إنسانيا ولا للإنسان، كان لاهوتيا، سلطويا ... إلخ. وفي السياق العربي بحث محمد عابد الجابري العقل العربي منذ لحظة التأسيس في عصر التدوين وحدد أنظمة هذا العقل في ثلاثة نظم معرفية يؤسس كل منها لآلية خاصة في إنتاج المعرفة مع ما يرتبط بها من مفاهيم وينتج عنها من رؤى خاصة. هذه النظم المعرفية هي (البيان والعرفان والبرهان). نظام البيان يحكمه مبدآن هما مبدأ الانفصال ومبدأ التجويز. (بنية العقل العربي ص 239). الانفصال والتجويز هنا يأتيان في مقابل الاقتران والضرورة. بمعنى أن النظام البياني يقوم على فصل الأشياء عن بعضها ويجوّز حدوث أي شيء انطلاقا من نظرة دينية تقوم على تجنب القول بالضرورة بين الأشياء مما يتعارض مع مشيئة الله المطلقة. لماذا تبنى النظام هذه الرؤية دون غيرها ؟ يعيد الجابري السبب إلى عدة عوامل منها بيئة العربي التي يطبعها الانفصال: الرمل، الحصى، الأحجار. إنها أشياء متجاورة لا متصلة. أما التجويز فهو عائد إلى التغيرات المفاجئة التي تداهم ساكن البيئة العربية. يقول الجابري "المبدأ الذي يؤسس وعي سكان هذه البيئة لن يكون السببية ولا الحتمية بل سيكون الجواز، كل شيء جائز. الاطراد قائم فعلا ولكن التغيّر المفاجئ الخارق للعادة ممكن في كل لحظة". (بنية العقل العربي ص 243). نظام العرفان هو النظام الثاني من أنظمة العقل العربي عند الجابري وهو النظام الذي يحكم الرؤى والنظرات اللاعقلانية الممتدة أساسا من النظرة الهرمسية الغنوصية. يستبعد هذا النظام العقل ويتبنى بدلا عنه الكشف والشعور وهو يمثل هروبا من عالم الواقع إلى عالم " العقل المستقيل". وجد هذا النظام فعاليته في الشرق الإسلامي من خلال مذاهب المتصوفة والإسماعيلية ويعتبر الجابري ابن سينا ممثلا واضحا لهذا النظام. أما النظام الثالث فهو النظام البرهاني العقلي. الذي يتخذ من أرسطو مرجعا له تنتج المعرفة فيه من خلال المنطق والاستدلال البرهاني. هذا النظام يمثل العقل الفاعل الذي يعتبر ابن رشد ممثلا له. سأورد هنا نصا يلخص رؤية الجابري لأنظمة المعرفة العربية والجميل أن هذا التلخيص بقلم الجابري نفسه. يقول:"يتخذ نظام البيان من النص والإجماع والاجتهاد سلطات مرجعية أساسية ويهدف إلى تشييد تصور للعالم يخدم عقيدة دينية معطاة هي العقيدة الإسلامية أو بالأحرى نوع من الفهم لها، و العرفان يتخذ من الولاية، وهذا هو موضوع المعرفة عند أصحابه، البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية، من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، وحدها دون غيرها، في اكتساب معرفة بالكون كالكل والأجزاء، بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك والانسجام ما يلبي طموح العقل إلى إضفاء الوحدة والنظام على شتات الظواهر ويرضي نزوعه الملح والدائم إلى طلب اليقين". (بنية العقل العربي، ص 283-284). الأنظمة المعرفية التي اقترحها الجابري تشكلت في التراث ولا تزال تعمل داخل المنظومة الفكرية العربية.لاحقا سأحاول قراءة أزمة العلم عربيا من خلال مفهوم نظام المعرفة. نقلا عن الوطن السعودية