الصفقة الأميركية – الروسية حول السلاح الكيماوي في سورية دفعت الكثيرين إلى طرح تساؤلات كبرى، فمنهم من خاب أمله، ومنهم من فوجئ بما جرى، ومنهم من تناسى تاريخ الصفقات. فهل اتعظ العرب من دروس الماضي وأخذوا منه العبر؟ وهل استوعب العرب، شعوباً وقيادات، أبعاد ما جرى خلال السنوات الماضية ولا يزال يجري حالياً بلا مساندة منها في تجنب الأخطاء؟ هل يتوقف هؤلاء عن ارتكاب الخطايا بحق أنفسهم وبحق أمتهم وأوطانهم وبحق دينهم وتاريخهم وحضارتهم وسمعتهم؟ وهل يدافع هؤلاء عن دورهم المتلاشي في العالم وفي المنطقة التي كانوا أسيادها فصاروا عبيدها وتحولوا إلى متفرجين أو أدوات لتدميرها وترك الحبل على الغارب لكل من هب ودب ليتدخل فيها ويأمر وينهى ويفرض شروطه ومواقفه ويحقق طموحاته في الهيمنة والسيطرة واستعادة أمجاد امبراطوريته الزائلة ويؤمّن مصالحه الذاتية؟ إنها أسئلة مطروحة منذ زمن بعيد، ونطرحها اليوم بعد الأحداث الدراماتيكية التي نشهدها، والحروب العبثية والانقسامات الحادة بين أبناء الأمة الواحدة والمصلحة المشتركة والتاريخ الغابر الواحد والعفاعلين في الحضارة الإنسانية المعطاء؟ ولكنها أسئلة تبقى بلا أجوبة، لأن كل الدلائل تدفعنا إلى القول إنه من من أحد تعلم من التجارب المريرة، وإنه ما من أحد يريد الاعتراف بأخذ الدروس والعبر منها... وإنه ما من أحد يريد أو يقدر على حسم أموره وتجنب ارتكاب الأخطاء المميتة أو حتى الوعد بعدم الغرق في بحار الخطايا القاتلة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى دينياً. نعم إنها الحقيقة المُرة التي نراها واضحة وضوح الشمس من دون أن نرى بارقة أمل تنقذ ما يمكن إنقاذه أو تعيد ترتيب البيت العربي ووضع سلم الأولويات وزرع بذور الأمل في نفوس الناس العاديين حتى لا نضطر إلى التبشير بالخراب والجزم بأن الأمل قد ضاع وأن الأوان قد فات وفق مقولة: «غطيني يا صفية ما فيش فايدة»! ولو عدنا قليلاً إلى الوراء لوجدنا بكل أسف، أن العرب استمرأوا مسيرة «التقدم إلى الخلف»، وصُدمنا بالخط البياني التراجعي المتواصل على مدى القرن الماضي لمواقفهم وأحاسيسهم ونقاط قوتهم ومواقع نفوذهم وإمكانات استغلال ثرواتهم ومقومات وحدتهم وترابطهم... وتضامنهم. ثورات وانقلابات وحروب وحركات وأحزاب وحكومات رفعت شعارات براقة وعملت بعكسها، ونادت بمشاريع نسفتها بيدها، وأقامت أصناماً حطمتها بنفسها، من دون أن يرف لها جفن أو تُظهر ندماً أو تبدي خجلاً مما جنته هذه الأيدي القاتلة والكلمات المسمومة. قامت الثورة الكبرى فحشد لها العرب ليتخلصوا من الحكم العثماني فسقطوا في حفرة الخداع الاستعماري البريطاني ودفعوا ثمناً باهظاً من أحلامهم وآمالهم ووحدتهم وقدراتهم، وضاع مصيرهم وتشتت مع أشلاء الدويلات التي أقامتها أيد أجنبية في ما سمي اتفاقات سايكس بيكو. وبدلاً من أن يعمد العرب إلى تضميد الجراح وردم الهوة لعبوا دور الحامي لهذه التقسيمات وتنازعوا ففشلوا لتذهب ريحهم، وضاعت الوحدة في كيانات هزيلة تحولت إلى خط أحمر لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، ورمز مقدس نغني له الأناشيد كل صباح ونرفع رايات مصنوعة من أشلاء راية التوحيد وقطعها المتناثرة. رفع البعض شعارات الوحدة فكانت العامل الأول في تكريس الانفصال وتقسيم العرب، وحمل آخرون شعار الحرية ثم قاموا بذبحها بيدي الظلم والديكتاتورية والتفرد والاستكبار والقمع وانتهاك حقوق الإنسان على مدى قرن كامل، ورفع بعضهم شعار الاشتراكية فهدم وخرَّب واستورد المبادئ من الخارج، فأشاع الفقر والتردي وصدّع الاقتصاد والوطن ونهب الثروات ودمر البنيان وخرب البنى التحتية وتحول هو وأزلامه إلى رمز للاحتكار والرأسمالية والطمع البشري الذي لا يشبع من مص دماء الشعوب وسرقة أحلامهم وطموحاتهم مع لقمة عيشهم وفرص عملهم. ورفع آخرون، بل جلهم، شعارات تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وتدمير إسرائيل وتاجر بها حتى الثمالة وقتل ونهب وقمع بكل قوته وجبروته بداعي التحضير لمعركة الحسم والمعركة القومية الكبرى لأنه لا صوت يجب أن يعلو فوق صوت المعركة. وبدلاً من توجيه البنادق إلى صدور العدو تم تحويلها إلى صدور الشعوب فكانت ناراً حامية عليهم وبرداً وسلاماً على العدو الإسرائيلي فتوالت النكبات والنكسات والهزائم من 1948 حتى 1967 وصولاً إلى يومنا هذا. وبدلاً من أن نحرر فلسطين ضاعت الأرض الفلسطينية كلها ومعها القدس الشريف ومرتفعات الجولان وسيناء التي حررت باتفاقات منفردة بين مصر وإسرائيل لكنها تركت تداعيات على القضية كلها. بل كان أصحاب القضية أنفسهم أعداءها، استنزفوا دمها يوماً بعد يوم بتشتتهم وانقسامهم وحروبهم العبثية وتحولهم إلى أشلاء منظمة تحرير فرّخت عشرات المنظمات والفصائل وصولاً إلى ما جرى بين الضفة وغزة وفتح وحماس ولا داعي لشرح أكثر. ونادى البعض بمحاربة الاستعمار ووجوب التصدي له، وللإمبريالية العالمية ومنعه من استغلال ثرواتنا والهيمنة على منطقتنا وقضايانا فإذا به يتحول إلى أداة وحليف ينقسم بين من ينفذ الأوامر عن رضا وقبول وبين من يفعل عن خوف ورهبة أو عن تعايش معه فلا يقربه ولا يدفعه إلى التعرض له. وهذا البعض إما يفعل ما يقوم به وهو يدري، فتلك مصيبة أو يقوم به عن غباء وهو لا يدري، وعندها فالمصيبة أعظم. ورفع بعض آخر في السنوات الماضية، شعارات دينية وإسلامية متشددة، أو متطرفة لا فرق، على أساس أن «الإسلام هو الحل» بعد فشل معظم التوجهات القومية والاشتراكية والرأسمالية واليمينية واليسارية، خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي. إلا أن هذا البعض ينطبق عليه القول: «أسمع كلامك يعجبني... أشوف أعمالك أتعجب»، فقد أساء المتطرفون للدين الحنيف، دين المحبة والسلام والحكمة والموعظة الحسنة، وحوّلوه إلى دين عنف وتكفير وإكراه وكراهية وأحقاد، مع أنه لا إكراه في الدين ولا غلو في مبادئه. فكان الضرر الأكبر على واقعنا وصورتنا الحضارية ولا سيما بعد زلزال 11 أيلول (سبتمبر) وما نجم عنه من احتلال للعراق وأفغانستان وتدمير ما بقي من القضية الفلسطينية وتقديم سلاح جاهز لأعداء الإسلام ليواصلوا مؤامراتهم ومخططاتهم الخبيثة وبث السموم والأحقاد تحت شعارات براقة، مثل الخوف من الإسلام أو «الإسلاموفوبيا» وتبرير القيام بكل عمل عدائي وإطلاق يد إسرائيل في التهويد والاستيطان الاستعماري ومحو الهوية الوطنية للفلسطيني. وبعد، ماذا نقول، فالقائمة طويلة والآثار واضحة لا تحتاج لشرح أكثر، فأفعالنا تدل علينا والدمار الحاصل يؤكد لنا سوء ما فعلناه بأيدينا لا بأيدي الأعداء، ولا أعتقد أن هناك من يتجرأ ليبرر ما حصل أو يدافع عنه أو حتى ينكر حصيلة الأخطاء والخطايا. فلولا ما فعله السفهاء منا لما وصلنا إلى هنا، ولو سادت الحكمة لما حصل كل هذا الدمار، ولو لجأ أصحاب الأمر والنهي إلى العقل لما تحولت التظاهرات إلى حروب والثورات إلى دمار نتيجة للإمعان في سياسة النفي والإنكار فوصلنا إلى حالة النعي والانهيار. والآن وقد حصل ما حصل ماذا يمكن أن نفعل؟ هل سيستسلم العرب لليأس والقنوط ويتساءلون عن فائدة التحرك بعد «خراب البصرة» وعشرات غيرها؟ رغم كل آلام الشعوب، وحالات الإحباط واليأس، ورغم خيبات الأمل، وحالات القلق والخوف من الحاضر والمستقبل... ورغم كل ما قيل ويقال لا بد من القيام بعمل ما لكي تسود الحكمة وتبدأ عملية الترميم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتوحيد الصفوف والبناء ولو من نقطة الصفر. فما من أمة هُزمت إلا وقامت بجهد أبنائها وعرقهم وتضحياتهم، وما من شعوب نُكبت إلا ووجدت شعاع نور في نهاية النفق. وهذا ليس كلام شعراء ولا خطاباً عاطفياً، بل هو أمل ورجاء... ودعوة للعمل والبناء وأول ما يمكن عمله هو اكتشاف الأخطاء ونبذ الخطايا وأخذ الدروس والعبر منها والاتعاظ بها حتى لا تتكرر وآخر دعوانا: ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا... وبنا! * كاتب عربي