«كلنا في الهم شرق» مقولة ذهبت مثلاً في الأحوال التي وصلنا اليها خلال السنوات العجاف الممتدة منذ زمن طويل ولم تلح في الأفق أية بوادر بأنها ستنتهي قريباً لنشهد بعدها يوماً واحداً يشعر فيه الإنسان بالراحة والسعادة والأمن والأمان والاطمئنان والأمل بمستقبل أفضل لا خوف فيه ولا رعب ولا قلق ولا حروب. نعم كلنا في الهم شرق... ولكن الأصح هو أن نقول أننا كلنا في العالمين العربي والإسلامي واحد في صواعق التفجير والحروب الدامية والأزمات المستعصية والظروف الصعبة والمراحل الحرجة، شلالات دم وصراعات وتهديدات من كل حدب وصوب ومطامع أجنبية وذاتية وفوضى عارمة وشعوب مغلوب على أمرها، ومن يعش بعد يشهد المزيد من مسلسلات العنف والرعب والدمار والتخريب، لا فارق بين بلد وبلد وبين منطقة ومنطقة وبين فئة وأخرى. الاختلاف فقط في الوجوه والأسماء والعناوين والذرائع والتوقيت أما الأساليب فواحدة ومعها النتائج المدمرة والانعكاسات الخطيرة والآثار القاتلة. آخر عنقود المآسي شهدناه في نيجيريا حيث وقعت معارك عنيفة بين قوات الحكومة وفئة قيل انها من فروع القاعدة يتزعمها محمد يوسف وتحمل اسم «بوكو حرام». أي التعلم حرام (تصوروا) وتدعوا الى تطبيق الشريعة الإسلامية مع أنها مطبقة في 12 ولاية إسلامية من ولايات نيجيريا المتعددة الطوائف والأديان والأعراق والقبائل. قُتِلَ من قتل وسجن من سجن وطوي الأمر رسمياً لكنه لن يطوى في تداعياته وردود الفعل بعد مقتل المئات وتدمير مناطق بأسرها إذ بات من المتوقع أن ينفجر الوضع مجدداً وبعنف أشد وانتقام مدمر بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الحل الأمني لمثل هذه الظواهر غير فعال، بل يمكن القول إنه مجرد مهدئ ومعالج وقتي يمثل جزءاً من الحل المتشعب الذي يبدأ بالتوعية والتوجيه الصحيح والدعوة السليمة بعيداً عن الغلو والتطرف على يد علماء لهم باع طويل في علوم الإسلام وأصول الشريعة التفسير الصحيح للقرآن الكريم، ليصل الى مناهج التعليم ودور الأسرة والمجتمع والإعلام. أما الشق الحكومي الرسمي فهو أساسي وضروري وحيوي يتعلق بضمان الشفافية والنزاهة والمشاركة الشعبية وقطع دابر الفساد ووضع مخططات عملية للتنمية والقضاء على الفقر والأمية وتأمين فرص العمل لملايين الشباب الباحثين عن عمل شريف ولقمة عيش يحصلون عليها بعرق جبينهم. فقد أبتُليت نيجيريا، مثلها مثل معظم الدول العربية والإسلامية، بكل أشكال الموبقات السياسية والاقتصادية ونُهبت ثرواتها النفطية والمعدنية والزراعية من قبل الحكومات المتعاقبة التي وصل بعضها الى الحكم بقوة السلاح وبأساليب الانقلابات العسكرية التي خربت الأمة وأكلت الأخضر واليابس وشردت الملايين وقضت على حياة مئات الآلاف. وزاد من حدة المأساة تكالب المطامع الأجنبية إضافة الى ما تشهده البلاد من صراعات دينية وطائفية وتزايد أعمال التنصير ودخول إسرائيل على الخط ضمن مخطط خبيث للسيطرة على مقاليد الأمور في أفريقيا وضرب النفوذ العربي والإسلامي. كما نشطت ايران في نيجيريا وأفريقيا ضمن سياسة تصدير الثورة. هذا غيض من فيض ومثال حي وحديث عن مأساة العرب والمسلمين أو مآسيهم المتعددة والمتكررة، فبنغلاديش تشهد خضة تلو الخضة وباكستان تعاني من الصراعات والفساد والحروب الداخلية والخارجية في معاقل طالبان في سوات وعلى الحدود مع أفغانستان ثم في الصراع مع الهند إضافة الى الأوضاع الداخلية الهشة الناجمة عن الفساد ونهب الثروات والانقلابات المتتالية والنزاعات القبلية والمذهبية. وفي أندونيسيا دعوات انفصالية وأعمال إرهابية متكررة رغم مظاهر الاستقرار النسبي والنمو الملموس. أما إيران فهي تعيش اليوم مخاضاً عسيراً بعد ثلاثين عاماً على الثورة على الشاه: حصار دولي ومخاوف من حرب إسرائيلية أوروبية عليها. وصراعات داخل النظام بعد الاضطرابات والاحتجاجات على نتائج الانتخابات مشاكل وأزمات وحروب لا نهاية لها ولا حدود كما تهدده مخاطر كثيرة تبدأ بطلب تقديم الرئيس عمر البشير الى المحكمة الدولية بتهمة لعب دور في أحداث دارفور وتتواصل مع المخاوف اليومية من انقلاب جديد ينضم الى سلسلة الانقلابات التي خربت البلاد وأفقرت العباد وكان آخرها الانقلاب الذي قاده البشير نفسه وحمل معه الويلات: من دارفور الجريحة بمذابحها والتصفيات العرقية وحالات الاغتصاب الى كسلا والجنوب المهدد بالانفصال عن الوطن الأم في الاستفتاء المقرر إجراؤه العام المقبل، الى المعاناة اليومية للشعب السوداني نتيجة الحصار والحروب والفساد والبطالة والفقر وهجرة الأدمغة ورحيل ملايين السودانيين الى الخليج ودول الغرب والشرق. أما العراق فحدث عنه ولا حرج بعد سنوات الديكتاتورية والانقلابات الدموية منذ عام 1958، وحكم صدام حسين الظالم الذي ابتُلِيَ بمن هو أظلم منه والمتمثل بالاحتلال الأميركي ونظام الحكم الطائفي والمذهبي والعشائري والعرقي الذي يحمل كل مقومات الانفصال والتقسيم والتفتيت وحروب أمراء الطوائف والعنصرية. أما اليمين الذي يفترض أن يرتبط اسمه بالسعادة فكل ما يشهده يمثل شتى أشكال التعاسة من الأوضاع الداخلية الى الصراعات القبلية والحروب العبثية التي يشنها من يسمون بالحوثيين الى انتشار مجموعات التطرف والعنف المرتبطة بالقاعدة وصولاً الى أوضاع الجنوب المزرية والدعوات المتجددة لانفصاله عن الشمال. وهنا أيضاً يبدو التشابه قائماً إن لم يكن واحداً مع ما أسلفنا، فما بني على باطل فهو باطل: الوحدة ضرورية ومطلوبة من اليمنين الشمالي والجنوبي لكنها قامت على أسس خاطئة وغير مدروسة، ان تمت على مستوى تفرد القيادات بقراراتها وغياب المسؤولية وانعدام التوازن في السلطة وعدم وجود خطط عملية لإقامة نوع من الإنماء المتوازن وتطبيق لا مركزية عملية تعطي الجميع بعدل ومساواة وتقدم الخدمات للمواطنين بلا تفريق ولا تمييز. وتكررت الأخطاء القاتلة التي قضت على أهم وحدة عربية في العصر الحديث بين سورية ومصر فكانت نهايتها مأساوية وُئِدَتْ وهي تحبو ولم تبلغ الثالثة من عُمْرِ الفرحة والأمل والرجاء. كما تم تجاهل الحساسيات القائمة بين الشمال والجنوب، والفروقات والاختلافات في العقليات والأوضاع ومستويات الحياة وأساليب العيش والعادات الاجتماعية والحريات الفردية. وتكررت الأخطاء عند وقوع حرب الانفصال قبل 15 عاماً إذ تم قمعها والقضاء على فلول مشعلي نارها لكن الجمر بقي يتأجج تحت الرماد. وفي النفوس ولم يتم الأخذ بالمطالب ومعالجة الحساسيات وإصلاح الأوضاع وقطع دابر الشكاوى وأسباب نشوب الحرب الى أن تجددت الاحتجاجات أخيراً ليس على يد القوميين العرب اليساريين والعلمانيين والماركسيين بل على يد المتشددين الإسلاميين الذين لهم روافد وروابط في الشمال. ولو تجولنا في عالمنا العربي التعيس لوجدنا في كل بلد صواعق تفجير مماثلة بدلاً من أن نقطف من كل بستان زهرة محبة وأمل وأمن. فلبنان يعيش على وقع الخوف من المصير المجهول والغد المتفجر، وهو لا يقوم من حرب حتى يقع في أخرى ولا يرتاح من أزمة حتى تفرخ في وجهه أزمات أخرى أشد عنفاً وفتكاً رغم تفرده بنظام ديموقراطي وانتخابات عامة وتداول على السلطة وتمتعه بحريات لا مثيل لها في أماكن أخرى وكأن قدره أن لا يرتاح يوماً من حروبه ومن حروب الآخرين على أرضه ومطامعهم وصراعاتهم في هذا البلد الجميل والفريد. ولا يكاد يخلو بلد عربي وإسلامي من صواعق التفجير الجاهزة والموقتة بحسب تقاويم مختلفة، كما لا يخلو من أعمال عنف وبقايا من القاعدة التي تعيد بناء قواعدها لا سيما في الجزائر وبعض الدول الأفريقية وفي الصومال ولدت حروبها العبثية الدامية حروباً أخرى تحمل بكل أسف اسم الإسلام من محاكم وشباب مع أن الإسلام منها براء، وصولاً الى فلسطين الجرح الدامي في قلب كل عربي ومسلم كأنه لم يكفنا. ما ارتكبته إسرائيل من مذابح وجرائم فزايد عليها البعض وافتعل الأزمات والحروب كما جرى بين فتح وحماس وأدى الى فصل غزة عن الضفة وتقسيم الشعب الواحد الى شعبين فيما العدو الإسرائيلي الشامت يصب الزيت على النار ويتشفى بما آلت اليه حال الفلسطينيين. وقد عبر عن المأساة خير تمثيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في رسالته الى الرئيس محمود عباس لمناسبة انعقاد مؤتمر فتح عندما قال: إن من طبيعة الأشياء أن يلقى الإنسان العداوة والبغضاء من أعدائه وأن يخوض معهم الحروب والمعارك إلا أنّ ليس من طبيعة الأشياء أن يحارب الشقيق شقيقه وأن يتآمر الصديق على الصديق في مخالفة صارخة للتوجيه الرباني الكريم: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم». لأن ما يحدث في فلسطين صراع مروع بين الأشقاء لا يُرضي الله ولا المؤمنين. وبعد أن ذكر الفلسطينيين بأيمانهم المغلظة يوم اجتمعت قياداتهم في البيت الحرام أمام الكعبة المشرفة استحلفهم بالله أن يوحدوا الصفوف ويرأبوا الصدع. وهنا بيت القصيد فمن دون تضامن لا مستقبل للعرب والمسلمين، ومن دون وحدة موقف لا أمل بغدهم ومستقبلهم، ومن دون حكمة ستظل الدول العربية والإسلامية تدور في دوامة وتغرق في حلقات مفرغة. يحاول البعض ربط توجهاته بالإسلام والإسلام يدعو الى الوحدة والسلام والمحبة والحكمة والموعظة الحسنة. ويحاول البعض الآخر تعليق كل المآسي والحروب والنزاعات والأزمات تارة على إسرائيل وتارة أخرى على الولاياتالمتحدة والغرب والاستعمار وهذا جزء من الحقيقة أما الحقيقة المرة والمتكاملة فهي تحمل بصماتنا وأفعالنا وممارساتنا وصور وجوه الأدوات التي زرعت صواعق التفجير في الدول العربية والإسلامية في قائمة طويلة من الأسباب والوقائع والحيثيات والبنود التي يحتاج شرحها مقال آخر بإذن الله. * كاتب وصحافي عربي.