كم يمر الوقت ببطء عندما أكون على متن الطائرة المتجهة إلى لبنان. فعلى رغم أن المسافة بين لندنوبيروت لا تتعدى الأربع ساعات ونصف الساعة، ومع ان سرعة الطائرة تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من ألف كيلومتر في الساعة، لكن ذلك لا يبدد الشعور الذي ينتابني خلال رحلتي البيروتية. ربما هو الشوق الذي يتفجر في داخلي عندما أحلق في الفضاء الواسع باتجاه الوطن الحبيب. العد العكسي للقاء لبنان بدأ عندما كنت مع مجموعة من المسافرين في قاعة الإنتظار المخصصة لدرجة رجال الأعمال ولركاب الدرجة الأولى التابعة لشركة "بي أم أي" bmi في مطار "هيثرو" اللندني. في هذه القاعة التي افتتحت حديثاً إستمتعت باحتساء القهوة وأنا أراقب حركة إقلاع الطائرات إلى القارات الخمس. طائرة تلامس الأرض وأخرى تغيب بين الغيوم. وها هي طائرة ال"بي أم أي" تستعد للإنطلاق إلى بلاد الأرز. لم أستهل الرحلة بقراءة الصحف والمجلات التي تقدم للمسافرين، بل أطلقت العنان لتبادل الحديث مع "أولغا" تلك المرأة الأرجنتينية المتحدرة من أصل لبناني والتي كانت تجلس قربي. و"أولغا" سمراء الملامح في العقد السادس، تتقن العربية أو كما نقول في لبنان: "بتحكي عربي مكسر"، ومن المحتمل أنها تعرف عن لبنان أكثر من الذين ولدوا وترعرعوا فيه. تحدثنا كثيراً عن لبنان الذي تشبعتُ من ثقافته وعاداته وتقاليده على رغم إبتعادي عنه في سن مبكرة للدراسة في لندن والعيش فيها. الساعة تمر تلو الأخرى، والمسافة بين لندنوبيروت تصبح أقرب. وعندما دقت ساعة الصفر، وأعلن عن موعد الهبوط في مطار بيروت الدولي، أطفئت إنارة الطائرة، وإستقبلتنا أنوار بيروت التي كانت تكسر عتمة الليل لتحولها إلى فسحة متوهجة بالنور والجمال. في المطار كانت تصدح أغنية وطنية للفنان زكي ناصيف يقول مطلعها "إشتقنا كثير يا حبايب"، وكأنها جاءت لتكون لسان حال المئات من الذين توافدوا إلى المطار لاستقبال أولادهم وأقاربهم وأحبائهم. والآن حان وقت اللقاء، فرحة لا توصف، "أولغا" في أحضان أقاربها الذين لم تقابلهم في السابق، وأنا برفقة أهلي نتوغل في شوارع بيروت باتجاه منزلنا القائم على إحدى تلال مدينة جونية الحالمة. اليوم الأول أشرقت شمس لبنان على جونيه وخليجها الساحر. ورحت من على شرفة غرفتي أراقب جونيه وهي تستقبل الصباح. الشمس تتسلل ببطء فوق الجبال الشاهقة، لتهب الضوء الى تلك المناظر البانورامية التي يأسرني جمالها كلما تأملتها. عند الظهيرة إنطلقت لزيارة مغارة جعيتا، تلك الإسطورة الرائعة بين الماء والحجر. والمغارة لا تبعد سوى بضع دقائق عن وسط جونية، تم إدراجها إلى جانب أرز لبنان للحصول على مكان بين عجائب الدنيا الطبيعية السبع التي ستعلن رسمياً في العام المقبل. دخلت المغارة عبر دهليز في بطن الجبل، فدهشت لتلك اللوحات العجائبية لملايين القطرات البلورية التي تجمعت في أحشاء الجبل، لتكون أروع عجائب الشرق. وجعيتا عبارة عن مغارتين سفلى وعليا، متشابهتين في تكوينهما، إلا أن السفلى يجري فيها جدول ماء، ويتم الإنتقال في داخلها بواسطة مراكب صغيرة، أما العليا فجافة. وقد أخبرتنا مسؤولة العلاقات العامة في المغارة أن السفلى أكتشفت على يد صياد أميركي عام 1836، وقد اتخذها مأوى له أثناء قيامه برحلة صيد. وفيما هو بداخلها سمع خرير مياه، فتتبع الصوت حتى وصل إلى عمق خمسين متراً. وبعد سنوات من ذلك الإكتشاف بدأت الفرق الهندسية بالتعاون مع شركة مياه بيروت بالتوغل في المغارة لإكتشاف أقسامها المعروفة حالياً. المغارة السفلية أو المائية تتيح للزوار بلوغ 500 متر من أصل 6200 متر يتدفق عبرها النهر الجوفي، والمغارة العليا أو البرية تتيح للزوار بلوغ 750 متراً من أصل 2200 متر. وتبقى الحرارة ثابتة في المغارتين طوال السنة، أو ما يعادل 16 درجة في المغارة المائية، و22 في المغارة البرية. وأترك جعيتا قاصداً كاتدرائية سيدة لبنان او كما يعرفها كثيرون بإسم سيدة حريصا. وعلى رغم زياراتي لأجمل مدن الأرض، فإنني في كل مرة أقف في هذا المكان، اقول لنفسي: ليس باستطاعة أي مدينة أن تقدم الأجمل. من هذا المكان الشاهق، تنبسط جونيه امامكم بكل مناطقها التي تكتنفها بيوت القرميد الأحمر والمباني الحديثة، ثم يطل عليكم كازينو لبنان أحد أبرز المعالم السياحية في لبنان، وفيه أمضيت سهرة ممتعة بمشاهدة العروض الفنية للفرق الأجنية التي يشتهر بها. اليوم الثاني نسمات حلوة كانت تعبق برائحة البحر عندما كانت السيارة تشق طريقها باتجاه الشمال. ها هي طرابلس تطل علينا لتدعونا لقضاء بعض الوقت في رحابها. وهي تعتبر متحفاً حياً، إذ تحتوي على أكثر من 100 معلم أثري وتاريخي من جميع العصور التي مرت بها لا سيما العصر المملوكي. في عاصمة الشمال قصدنا القلعة المعروفة بإسم "قلعة سان جيل" وتعرفنا على أقسامها القديمة. ثم عرجنا إلى الجامع المنصوري الكبير التي تحيط به الأروقة المعقودة، وإلى الجامع المعلق الذي يرجع تاريخ بنائه إلى القرن السادس عشر. وتحافظ طرابلس على العديد من المآثر التاريخية، كجامع طينال الذي بناه الأمير سيف الدين طينال عام 1336 ولا يزال ضريحه على مقربة من قاعة الصلاة الداخلية، فضلاً عن مجموعة غنية من المدارس الدينية الشهيرة والحمامات والخانات كخان الخياطين الذي تقوم على جانبيه دكاكين لبيع الأزياء المحلية والسلع الأخرى. عند الإنتهاء من زيارة طرابلس كان المركب ينتظرنا ليبحر بنا إلى "جزيرة الأرانب" و"جزيرة النخيل" التي تستقبل الزوار خلال فصل الصيف لمشاهدة أصناف النبات والطيور والسلاحف البحرية التي تعيش على هذه البقعة الجغرافية. ونعود إلى البر لنسلك الطريق باتجاه بلدة بشري التي تفتخر بأنها قدمت إلى العالم أديبها اللامع جبران خليل جبران، الذي اشتهر أيضاً بالشعر والرسم. في بشري قصدنا بيت جبران ومتحفه الذي أقيم في دير صخري على مقربة من مدفنه، وفيه مجموعة كبيرة من لوحاته الفنية ومخطوطاته. وهل يعقل زيارة بشري من دون الرحلة إلى وادي قاديشا أو وادي القديسين القريب منها؟ ولذلك توجهنا إلى هذا الوادي الذي هو أعمق وديان لبنان. سرنا في مسالكه التي تفيئها الأشجار، وشاهدنا نهر قاديشا الذي يجري في عمقة و ينبع من مغارة تقع عند أقدام "أرز الرب". وقد علمنا أنه منذ القدم سكن الإنسان الوادي واستقر في مغاوره وملاجئه الصخريّة. ومع بدايات دخول المسيحيّة إلى الجبل، تحوّلت هذه الكهوف إلى كنائس وصوامع وأديرة تعاقب على السكن فيها الرهبان والنساك والمتوحدون. يتوزع على جانبي الوادي عدد من البلدات التي تحفل كل واحدة منها بتاريخ عريق. والوادي معبد الطبيعة الخالدة. جلسنا في حضرته، فنسينا الزمان والمكان. وجذبنا ماضيه بقوة عندما زرنا أهم معالمه التاريخية، كدير مار أنطونيوس قزحيا الذي يعتبر مقر أول صحافة مكتوبة في لبنان في القرن السادس عشر. محطتنا الأخيرة في الشمال كانت في غابة الأرز، أو كما نطلق عليها في لبنان إسم "أرز الرب". وصلنا إليها فدهشنا بجذوعها العتيقة التي شيدت منها الهياكل والقصور والسفن. وقد ذكر الأرز في الكتب المقدسة والنصوص القديمة، ولعب دوراً بارزاً في ثقافة الشرق الأدنى حيث بدأ إستثمار أخشابه منذ الألف الثالث قبل ميلاد. المميز في الغابة هو ان لكل أرزة قصة وتسمية، فعند المدخل الغربي تنتصب أرزة ضخمة تطلق عليها تسمية "أرزة المئة ليرة" لأنها شبيهة تماما بالأرزة المصورة على ورقة المئة ليرة اللبنانية. وعند خروجنا من الغابة شاهدنا "أرزة الرب" أكبر الأرزات في لبنان. اليوم الثالث نحن اليوم وجهاً لوجه مع مرفأ مدينة جبيل الذي منه أبحرت مراكب الفينيقيين منذ آلاف السنين لتهب الحرف إلى العالم. وجبيل مدينة تتربع على البحر وتحافظ على ماضيها بكل إعتزاز. ومشوار في السوق العتيق المرصوف بالحصى والمكتظ بالمتاجر الصغيرة، سيشعركم بسحر الماضي وأيامه الحلوة. كلمة أهلاً وسهلاً، تفضل إلى الداخل ستسمعونها من العديد من أصحاب المتاجر هنا. لا شيء تغير في السوق العتيقة، الأجواء نفسها، الروائح نفسها، وحتى وجوه أصحاب تلك المتاجر فإنها لا تزال باقية في مكانها على رغم اصطباغها بملامح التقدم في السن. من السوق العتيقة إشترينا الهدايا والتذكارات التي تحكي عن تاريخ الفينيقيين الذين استقروا فيها، ثم عرجنا إلى قلعتها الأثرية التي بناها الصليبيون في القرن الثاني عشر. عند مدخلها متحف شيد عام 2002، وهو عبارة عن طابقين تتوزع فيهما لوحات تحكي عن الحفريات التي جرت في جبيل، كما توجد واجهات تعرض قطعاً أثرية فينيقية ورومانية. دخلنا القلعة، وسلكنا ممرات سلكها كثيرون قبلنا، وفيها لمسنا ما خلفته القرون الماضية من مآثر تاريخية مهمة. في مطعم مشرف على مرفأ جبيل تناولنا أشهى الأطباق اللبنانية خصوصاً الأسماك، ثم رحت أتأمل المرفأ الذي كان قبلة العالم، ومن أشهر المرافىء على الإطلاق. أمام ناظري كانت ترسو قوارب الصيادين التي كانت تميل مع الموج قبل إنطلاقها بأسفارها في عباب البحر لجني خيراته. وتنقضي العطلة في لبنان بلمح البصر. أكثر من ثلاثة أيام أمضيتها في لبنان، كان لكل يوم مزاياه وحلاوته. وها أنا أترك بيروت وأحلق في فضائها، وأبتعد عن أراضيها رويداً رويداً. وها هو البحر الأبيض المتوسط ينفتح أمامي من جديد، والفضاء يصبح أكثر إتساعاً، وفي البال أمنية بالعودة إلى الوطن من جديد. سجلوا في مفكرتكم! للمزيد من المعلومات عن لبنان وعن مناطقه السياحية يمكنكم زيارة الموقع الذي تشرف عليه وزارة السياحة اللبنانية: www.lebanon-tourism.gov.lb يزوّد طيران ال"بي أم أي" مسافري الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال إلى بيروت بخدمة تأمين سيارة تاكسي مجانية من المطار إلى مكان الإقامة. ويمكنكم الإستعلام عن ذلك من خلال الموقع التالي: www.flybmi.com