الفارق كبير، طبعاً، بين هرقل الأسطورة الشعبية ثم السينما الإيطالية في الستينات، وبين هرقل كما تصفه الأدبيات القديمة، من إغريقية ورومانية، وكما تجلّى بخاصة في واحد من أجمل فصول كتاب «مسخ الكائنات» لأوفيد. ولن ندخل هنا في المقارنة، فقط يمكننا أن نقول إن هرقل أوفيد «الروماني» ثم هرقل ورثة أوفيد من كتّاب وفنانين تناولوا الحكاية على مر العصور وأحدثوا فيها تبديلاً وتنويعاً، كان أكثر جدية وأكثر «إنسانية» بكثير من هرقل الشعبي ذي العضلات والقوة التي لا تضاهى، والذي أتحفتنا السينما الشعبية الإيطالية في سنوات الخمسين والستين بعشرات الأفلام التبسيطية التي انتهى الأمر معها إلى تحريف صورته تماماً، بيد أن هذه حكاية أخرى بالطبع. حكايتنا هنا عن هرقل الحقيقي، الأسطوري الذي كان من القوة والجدية إلى درجة أن فنوناً موسيقية وفنون رسم ونحت، كثيراً ما دنت منه، مستوعبة دروس حكايته وعظمة شخصيته ودراميّتها في أعمال بدت في نهاية الأمر أشبه بأمثولات مؤسّسة، فنياً وفلسفياً وأخلاقياً. وحسبنا أن نذكر هنا أن الموسيقي هاندل، صاحب اوراتوريو «مسيّا» ومقاطع «موسيقى الماء» بين أعمال أخرى، لم يتوان عن أن يجعل من هرقل، بطل عمل موسيقي كبير كتبه وهو في قمة نضجه تحت عنوان «هرقل». وهذا العمل يعتبر منذ ذلك الحين واحداً من أقوى أعمال هاندل وأجملها، من دون أن يكون العمل الوحيد الذي استقاه هذا الفنان من أساطير القدماء، هو الذي كانت تلك الأساطير بعض زوادته الفنية. وضع هاندل موسيقى «هرقل» في العام 1744، ليقدم هذا العمل في العام التالي في لندن للمرة الأولى. وكان هاندل يقيم، في ذلك الحين، في العاصمة البريطانية ويعمل فيها، بعدما ترك وطنه ألمانيا. ولقد استند هذا الموسيقي، الذي كان من كبار المجددين في الموسيقى الغنائية في زمنه، على خطى هانيريش شولتز، وبالتزامن مع يوهان سيباستيان باخ، في تلحين اوراتوريو «هرقل» إلى النص الشعري الذي وضعه ت. براوتون استناداً إلى الكتاب التاسع من «مسخ الكائنات» لأوفيد. وكانت النتيجة أن هاندل تمكن على الفور أن يفرض هذا العمل بوصفه الأقوى بين الأوراتوريات الدنيوية السبعة عشر التي لحنها طوال حياته المديدة. وكما يمكننا أن نتصور، يروي هذا «الأوراتوريو» منذ البداية حكاية هراكليس (هرقل) الذي تطالعنا في المشهد الأول امرأته الحبيبة والملتاعة ديجانير وهي تبكي موته، إذ خيل إليها أنه قد رحل عن عالمنا... بعد غيبة قتالية طويلة، لكن البطل لم يكن في حقيقة الأمر قد مات، بل ها هو يعود مظفراً من ايطاليا التي قام بغزوها قبل ذلك وتمكن بعد معارك وصعوبات من قتل ملكها... والأهم من هذا أن هرقل جلب معه في ركابه عدداً من السبايا، ومن بينهن الأميرة إيولي الحسناء، التي يخيل إلى امرأة هرقل، ديجانير، أن زوجها واقع في غرامها، ما يجعل الغيرة تأكل قلبها وتنغّص عليها حياتها بالتدريج، هي التي لا تعرف أن الحقيقة شيء آخر تماماً: الحقيقة هي أن هيللوس، ابن هرقل، هو المغرم بالأميرة الشابة وليس أبوه... صحيح ان هيللوس، يعترف لأمه ذات لحظة بحبه لإيولي، ومع هذا -وكما حال المرأة في مثل هذه المواقف- لا يبدو أن هذا الاعتراف قد أقنع الزوجة والأم بأن زوجها بريء من هذا الغرام، تماماً كما أن كل احتجاجات هرقل على اتهامها له لم تقنعها. فما العمل؟ إن لديها رغبة هائلة في استعادة حب زوجها لها، هي التي باتت مؤمنة -عن خطأ كما يفهم المشاهدون المستمعون- بأن هذا الحب قد خبا... وفي سبيل الوصول إلى تحقيق هذه الغاية لا تجد أمامها إلا الاستعانة بثوب غارق في دماء نيسوس، معتقدة أن في إمكان هذا الثوب أن يعيد إليها هناء حبها وزوجها... لكن النتيجة تكون عكس ما توخت ديجانير: لقد أدى الثوب إلى أذية هرقل، إذ بات يعاني آلاماً فظيعة لم ينجه منها إلا الموت... وهكذا يموت ويصعد إلى جنان تلال الأولمب حيث تستقبله الآلهة، في الوقت نفسه الذي تعلن قرارها بأن يتزوج هيللوس من إيولي... على رغم أن نقاداً كثراً، يرون في موسيقى هذا العمل ضعفاً يعزونه إلى «عدم قدرة الموسيقى على الوصول إلى الذروة التي تمثلها فاجعة الغيرة والبطولة هذه»، فإن النقاد الأكثر معرفة بعمل هاندل في شكل عام وبسلسلة «الأوراتوريات» التي ركز خلال فترة محددة من حياته على الاشتغال عليها، يرون أن هذا العمل يتميز بكونه يستخدم أساليب الاوراتوريو الديني للتعبير عن موضوع دنيوي. وهذا القول هو الذي جعل دارسي هاندل يرون، في شكل عام، أن حساسيته الموسيقية في فن الأوراتوريو تفوق والى حد كبير تلك التي عبّر عنها حين كتب الأوبرا الخالصة، إذ إنه في مثل هذه الأعمال لم يضح بالتألق الموسيقي من أجل إظهار البعد الدرامي في حركيته المسرحية: كان الهمّ بالنسبة إليه هنا أن يستخدم الأصوات البشرية الغنائية كأنها أدوات موسيقية. ويقول واحد من هؤلاء الباحثين (الألماني أوسكار باي) إن هاندل تعامل مع هذا العمل تعامل «الألماني الذي لا يحب الدراما بما يكفي لكي يترك لها قيادة العمل الموسيقي، ويبدو مغرماً بالموسيقى إلى درجة التضحية بكل شيء من أجل التعبير عن ملذاتها الحسية». وهذا الباحث نفسه يلفت النظر هنا إلى كم أن هاندل تمكن في «هرقل» من إضفاء بعد سماوي على موضوع دنيوي، في مقابل أنسنته المطلقة للبعد السماوي في «مسيّا». صحيح أن اوراتوريو «هرقل» يكاد يكون اليوم، مثل الكثير من أعمال هاندل، منسيّاً مقارنة بالمكانة التي ل»مسيّا»، ومع هذا فإن قدراً لا بأس به من الإنصاف يأتي ليقول لنا، إن هذا العمل لا يتعين إغفاله إطلاقاً، حتى وإن كانت شعبيته متضائلة (ولعل واحداً من أسباب هذا التضاؤل يكمن في أن ازدهار فن الأوبرا نفسه إن لم يتمكن من القضاء على الأوراتوريو الديني، إذ إن لهذا مكانه وعالمه المتواصل الحضور، فإنه تمكن من إلحاق أذى كبيرا بالأوراتوريو الدنيوي... لكن هذا سجال آخر، لسنا نرى هنا مجالا له بالطبع). ومهما يكن من الأمر، فإن ثمة هنا في «هرقل» صفحات موسيقية رائعة يمكن دائماً التوقف عندها باعتبارها أوصلت التعبير الموسيقي في حدّ ذاته إلى ذروة مستقلة. ومنها مثلاً النحيب الذي تؤديه ديجانير في المقدمة حيث كانت تعتقد أن هرقل قد مات. وهناك أيضاً أداء الكورس الذي يختتم كل فصل وكل مشهد وكأنه يعلق على ما حدث، مهيئاً لما سيحدث. من الواضح في نهاية الأمر أن هاندل (1685 - 1759) الذي لم يكتب هذا العمل، من تلقائه، بل تحديداً ضمن ظروف مهنية وعملية أملت عليه كتابته في تلك المرحلة المتقدمة من حياته، في لندن، استخدم في الكتابة عدة مقطوعات كان وضعها في السابق من أجل أعمال أخرى، بعضها ديني وبعضها دنيوي، لكنه لم يستخدمها في حينه، فإذا به هنا يجم بعضها إلى بعض، ما جعلها تبدو في بعض الأحيان على غير تناسق. غير أن هذا لم يهيمن على العمل الذي كتبه، وهو في الستين من عمره تقريباً، واحد من أكبر موسيقيي ذلك الزمن... فنان عاش وتنقل بين أماكن كثيرة (خصوصاً ألمانيا وبريطانيا) وخاض معظم الأنواع الموسيقية مخلفاً عشرات الأعمال بين أوبرا وأوراتوريو، نهل معظمها من التراث القديم، سواء كان أسطورياً أو دينياً أو درامياً بامتياز، وعرف دائماً كيف يقدم الإطار الفني لموضوعه في بُعد إبداعي خالص. [email protected]