في ذلك الحين كان هاندل يقترب من عامه الأربعين. وكان وصل الى قمة المجد. وكان الجمهور قد تبعه طوال العقد السابق من السنين وأولع بكونشرتاته وأعماله الدينية الكنسية. ولم يفت الجمهور ان يُقبل بلهفة على الأعمال الأوبرالية التي كان هاندل لا يفتأ يقدمها تباعاً. غير ان شيئاً ما كان بدأ يلوح في الأفق ويقلق هاندل بالتدريج وفي شكل متصاعد. فالأوبرا التي يقدمها وكان عثر لها على جمهور عريض متحمس، كانت أوبرا جادة Opera Seria، تفترض من الجمهور قبولاً طقوسياً وصمتاً وتفاعلاً على مستوى الذهن أكثر مما على مستوى العاطفة. ولكن، بالتدريج، بدأت تغزو الصالات اوبرات من نوع جديد: أوبرات من النمط الايطالي، خفيفة، مسلية، ميلودرامية أو هزلية. ولما كان ذلك الزمن نفسه هو زمن نوع من الانزياح الطبقي، مع نمو الفئات البورجوازية وإرهاصات العصر الصناعي المكوّن لثروات جديدة تخصّ فئات بدأت تدخل المجتمع آتية من خارج الأطر الارستقراطية، سرعان ما راحت الاوبرات «الايطالية» تلقى رواجاً. وكان سيد الموقف في ذلك الحين، الموسيقي الايطالي بونونتشيني الذي، لسبب ما، راح ينال حظوة لدى الجمهور اللندني، أقلقت الموسيقيين الجادين. ثم أتت، في الوقت نفسه، «اوبرا الشحاذين» لجون غاي (والتي سيقتبس بريخت عنها لاحقاً «اوبرا القروش الثلاثة») لتوجه ضربة الرحمة للأوبرا الجادة وللأوراتوريو (الذي سيظل هاندل، مع ذلك، سيده الأكبر مع «مسيا» التي لا تزال حتى اليوم تعتبر اكبر اوراتوريو كتب في تاريخ الموسيقى). وهكذا وجد هاندل ان لا مناص له من الابتعاد بعض الشيء عن الاوبرا الجادة. وفي تنافس واضح مع بونونتشيني كتب هاندل تباعاً أربعاً من اوبراته التي ستعيش كثيراً: «جوليو سيزاري»، «تامرلانو»، (تيمورلنك)، «روديلاندا» و «الساندرو». والأشهر بين هذه الاعمال، بالطبع، «جوليو سيزاري». علماً أن هاندل لم يكن أول من يقتبس هذا الفصل التاريخي ويحوله الى عمل فني، ولن يكون الأخير. الحال ان شخصية «جوليو سيزاري»، لطالما فتنت الكتاب، لا سيما، من بين فصول سيرته، حكاية غرامه بالملكة المصرية كليوباترا. ولئن كان شكسبير أوصل الحكاية الى ذروة فنية عبر مسرحيته الرائعة المعروفة، فإن عشرات غيره، من كتاب المسرح والأوبرا انكبوا عليها واجدين فيها من العناصر الدرامية والميلودرامية ما يغذي عملهم ويلهمهم ويرضي جمهورهم. وهكذا من الفرنسي ذي النزعة الانسانية مارك - انطوان موريه (1526-1585) وحتى مواطنه غوستاف دوريه (1866-1946) والألماني روبرت شومان (1810-1865) في مجالات فنية متنوعة، يمكننا ان نحصي نحو عشرين عملاً - على الأقل - تتناول حكاية ذلك القيصر الروماني. ولكن من الناحية الموسيقية تبقى «اوبرا» هاندل الأشهر والأكثر حيوية. بل انها تظل الأشهر بين أعمال هذا الموسيقي الألماني - الانكليزي، إذا نحيّنا جانباً «مسيا» و «موسيقى الماء». وعلى رغم ان بدايات هاندل، في موطنه الاصلي كانت أوبرالية، إذ ان أول عمل قدم له كان أوبراه الأولى «الميرا» ثم التالية «نيرون» اللتين قدمتا حوالى العام 1705 وكان بالكاد تجاوز العشرين من عمره، فإنه عرف لاحقاً بأعمال اوركسترالية متنوعة. وكان عليه ان يقوم بجولة طويلة في ايطاليا وأن يرتبط بصداقة حميمة مع سكارلاتي، قبل ان يعود الى الأوبرا بقوة، في زمن لاحق من حياته، لا سيما بعدما انتقل ليعيش ويبدع في لندن التي استقبلته وأسبغت عليه مجداً وجاهاً وكرسته واحداً من أكبر موسيقيي زمنه. وحين قدم هاندل «جوليو سيزاري» للمرة الأولى في لندن عام 1724، أيقن الجمهور أنه لم يكن مخطئاً في اختياره. من ناحية مبدئية، استقى هاندل أحداث هذه الأوبرا من مسرحية شكسبير، ولكن، في شكل موارب، إذ ان كاتب النص الاوبرالي كان هاندل يتعاون معه في ذلك الحين، نيكولاس هايم، آثر ان يبني العمل انطلاقاً من اقتباس ذي رنة ميلودرامية خالصة حققه ميتاستاس. وهكذا تحول العمل، شعرياً، الى حكاية غرام ميلودرامية خالصة. غير ان موسيقى هاندل، بصرامتها الاوركسترالية وغرفها من بئر النزعة الموسيقية العقلانية الخالصة، استطاعت ان تقيم توازناً خلاقاً، جعل من «جوليو سيزاري» واحداً من أفضل النماذج في مجال التكامل بين الموسيقى والنص الشعري. وهو تكامل كان هاندل يفضله دائماً على التطابق الذي كان سائداً في الموسيقى، حيث ان هذه الأخيرة لم تكن لتأتي الا تفسيراً للنص الشعري، لا اضاءة واستكمالاً له. من هنا ما يقال دائماً من ان موسيقى هاندل الموضوعة للأوبرات، يمكن بكل بساطة ان يلغى منها الجانب الصوتي، فتصبح سيمفونية خالصة. تقوم حكاية «جوليو سيزاري» في اوبرا هاندل على المزج الميلودرامي بين الحب والسياسة، وبين الغيرة والبطولة. وتبدأ الأحداث مع وصول سيزاري الى مصر منتصراً على بومبيوس. وكان عدد من رجال البلاط المصريين قد غدروا بعدوّه، وسيدهم، وقتلوه. وهكذا، منذ البداية يقدم لنا العمل مجموعتين من الاشخاص، ومسلكين عاطفيين في تجابههما. فمن ناحية لدينا سيزار نفسه وكورنيليا أرملة عدوه المغدور وابنه سكستوس. ومن ناحية ثانية بطليموس وقائد جيوشه آخيلاس. وهذان، فيما يكونان متحالفين أول الأمر انطلاقاً من رغبتهما المشتركة في الهيمنة على السلطة، سرعان ما يدب الصراع بينهما، ليس على السلطة، بل على الظفر بقلب كورنيليا. ويصل الصراع بالاثنين الى قتل كل منهما الآخر وإزالته. وهكذا تحل الحسناء كليوباترا في السلطة محل أخيها بطليموس، وتصبح ملكة على مصر بفضل الدعم الذي يقدمه اليها جوليو سيزاري، في الوقت الذي تنتشر إشاعة تؤكد موت الامبراطور... *من الواضح هنا ان سرد الأحداث في الأوبرا الهاندلية، لا يشبه سردها لدى شكسبير، مع ان شكسبير كان المصدر الاساس. ذلك ان أحداث المسرحية تتجاوز ما تقدمه الأوبرا، وصولاً الى نهاية كليوباترا المأسوية. وما يقدمه هاندل هنا إنما هو الفصل الأول والمؤسس للأحداث التالية. غير ان الروح واحدة، من ناحية البعد الدرامي والميلودرامي. وفي الاحوال كافة، من المؤكد ان هاندل انما استخدم ذلك الجزء من حكاية قيصر وكليوباترا، كذريعة لتقديم موسيقاه. ذريعة يعرف سلفاً أنها تلقى هوى شعبياً لا شك فيه. وكأنه قسم اللعبة بينه وبين جمهوره. ومن هنا تبدو الموسيقى أكثر أهمية من البعد المسرحي في عمل كان بالنسبة الى هاندل تجريبياً خالصاً، إذ انه شاء من خلال اختبار مقدرته - وقبول جمهوره - تلحيناً يساير روح العصر، وروح العصر في ذلك الحين كان «الأوبرا الايطالية» كما أشرنا. وهكذا تتبدى الموسيقى هنا ذات نمط ايطالي يتبع مبدأ التكرارات المتواصلة، ويعطي الأجواء استقلاليتها. ولسنا في حاجة الى التأكيد هنا ان هاندل عرف في هذا كله كيف يتجاوز التكرارات «الايطالية» المألوفة، من ناحية صرامة موسيقاه الدرامية، والمرافقة الاوركسترالية. كما ان الألحان (الأجواء) تجاوزت كثيراً البعد العاطفي المألوف في ذلك الحين، في الوقت الذي امتزجت فيه، بين بعضها بعضاً، بوحدة أمّنها غنى التوزيع الأوركسترالي. من هنا تمكن جورج فردريك هاندل من ان يوحد في عمل واحد، صرامته العقلانية الألمانية وهواه الايطالي في بوتقة انكليزية. وهو بهذا يكون كمن لخص حياته الموسيقية كلها. وهاندل ولد العام 1685 في ساكسونيا في ألمانيا وعاش حتى العام 1750. ويعتبر الى جانب باخ وبيتهوفن من أعظم الموسيقيين الذين أنجبتهم البشرية. غير انه كان دائماً أكثر تنوعاً من زميليه. فهو أبدع في الأوبرا كما في الموسيقى الدينية. في الكونشرتو كما في الأوراتوريو. وأمضى حياته كلها منصرفاً الى الموسيقى يحييها ويحيا بفضلها موزعاً ولاءه الوطني وهواه بين البلدان الثلاثة التي طبعته. [email protected]