«حذائي» حاز جائزة أفضل فيلم قصير بالعالم لمخرجه الشاب الإيراني «نيما رؤوفي». يروي في دقائقه الثلاث قصة حذاء متهالك في قدم فتى مدقع في عوزه، يجلس على كرسي في حديقة عامة، تعرف في وجهه ملامح الحزن والسخط والملل من وضعه. يتسكّع في المكان ثم يعود أدراجه للجلوس على كرسيه، فيجد ولداً في مثل عمره، ولكن ليس في مثل حالته. فالزائر الجديد مظهره الخارجي المرتب بحذائه النظيف يحكي أن الفرق بينهما شاسع جداً، فيترك الفتى الفقير الكرسي ليجلس على العشب تحت الشجرة، يحدِّث نفسه عن الظلم الواقع عليه، ثم وبكل قوته يغمض عينيه ويتمنى لو كان هو في مكان الصبي الثري، مكرراً جملته في أن يكون هو... أن يكون هو، فإذا بأمنيته تتحقق ويلقى الفقير نفسه في هيئة الصبي الغني بملابسه المرتبة وحذائه النظيف. فلا يكاد يبتسم لوضعه الجديد، إلا ويلمح امرأة تجر أمامها كرسياً خالياً للمقعدين، تقترب منه لتساعده على الجلوس فيه فقد حان وقت الإياب، في الوقت الذي نشاهد فيه الصبي الغني وقد تحوّل إلى الملابس الرثة والحذاء القديم للفتى الفقير، ومع ذلك فلا تكاد الدنيا تسع فرحه وقفزه طرباً في الهواء لتخلصه من الشلل الذي عوَّقه، وتذوقه القدرة على المشي والتنطيط. هي فلسفة بسيطة لمعنى أعمق، ولكن لا تعني صوابها على أي حال. وإلا تقاعس المرء عن العمل والتطور بحجة القناعة بفقره لأن غيره يملك المال ومعه الابتلاءات، فهذه نظرة مختزلة ترضي الإنسان ولكن لا تقدم له حلاًّ ولا تغييراً، فالابتلاء قدر على الفقير والغني، ولا يعني أن أكون غنياً أن تحتلني الأمراض، أو فقيراً فأتمتع بالصحة. وبمناسبة هذا المنطق، تجد الأهل عادة ما يرددون على مسامع ابنتهم إن اشتكت من زوجها: «ارضي بنصيبك ولا يفوتك أنه أحسن من غيره، فعلى الأقل هو لا يسكر ولا يتزوج عليك وليس من رواد السوابق والسجون». منطق غريب ومحبط للأمانة، فلِمَ على المرأة أن تبدأ من هذه الدرجة الدونية في تقديرها لما تستحقه في الدنيا؟ وهل إن كان زوجها لا يتناول الخمر أو المخدِّر (وهذا المتوقع من الإنسان الطبيعي فلا مِنّة ولا فضل) أن تتقبل تعنيفه لها أو بخله عليها أو طباعه الخانقة في المقابل مثلاً، اكتفاء بأنه ليس منحرفاً أو مزواجاً؟ هذه لا شيء سوى ثقافة جهل عامة تطاول الجنسين وتكرّس الأنانية والخنوع والخضوع لأي وضع مهما ساء، والتبرير: من الممكن أن يكون أسوأ. وهذا صحيح، فكل مآل إلا ويوجد ما هو أسوأ منه، ولذلك بالضبط، ومن باب أولى أن يسعى الإنسان إلى تحسين «أسوئه» فلا يستمرئه في حياته، أو يألفه بحجة الرضا والقناعة. والحقيقة أنه مجرد تراجع وكمون بسبب الجبن وتفضيل الدعة على التغيير والعمل والكد. فهل نعلم ما الشيء الأجمل من الراحة في الحياة؟ أن نعيش الحياة. فالراحة قد تمنحنا هدوءاً موقتاً «ومضللاً»، ولكنها أبداً لن تثرينا بالخبرة والمعايشة والمكانة الأعلى. أمّا حكمة الفيلم أو حسنته التي استقيتها منه، ففي اعتقادي أنها في ضرورة إعفاء المرء ذاته من الأحكام الجاهزة على الظواهر، فلا تدري ما يخبئه الجبل في جهته الأخرى، فدائماً هناك غير ما تراه، فلا تحكم، ولا تبالغ في أهمية حكمك، أو القياس عليه. والآن، كيف يكون الارتقاء؟ بتولي المهمات الصعبة وتوديع الكسل. ولكي تحقق شيئاً عليك أولاً أن تمتلك الشجاعة أمام الفشل، فتجمع شتات نفسك من رمادك، وتقوم ثانية وتجرب هنا وتحاول هناك، بتعويذة من كلمتين لا تخرج من بيتك من دونهما: «البال الطويل». وقد قيل يوماً: «لا يضيع حق وراءه مطالب»، ومنطق الزمان يعدّلها إلى: «لا يضيع حق وراءه الصبر والنَّفَس القوي». فالحياة أجمل من اليأس والزوايا المهملة، وأحلى ما فيها احتمالاتها المفتوحة، ولكن كل هذا لا يجدي نفعاً لو كان الخلل الأصلي في الاستعداد الشخصي ورؤية المرء للمكانة التي تليق به. فليس كل وضيع لأن حظه وضعه، ولكن لأنه هو الذي حط من نفسه، وبالإذن من متنبّينا نقول: على قدر أهل الهزل تأتي الهزائم. [email protected]