مشاركة مصر في "مؤتمر القطن" المنعقد حالياً في اليونان سعياً منها لانقاذ زراعته من الموت، تُعيدنا بالذاكرة الى زمن الصدارة المصرية الأولى في إنتاجه وتصديره. لكن هذه الزراعة تحتضر حالياً على مرأى من السلطات ووسط حسرة الفلاحين المصريين على "الذهب الابيض" الذي ادخل محمد علي زراعته الى ارض الكنانة، وخصوصاً من فئة الطويل التيلة، الأغلى ثمناً والأمتن والأنعم خيطاً والأكثر تجانساً من أي قطن آخر في العالم. وكانت الحكومة المصرية، وسعياً منها للتركيز على زراعة القطن الطويل التيلة، منعت الفلاحين من زراعة القطن القصير التيلة، والذي أصبح الأكثر تداولاً عالمياً، ليس لجودته بل لانخفاض أسعاره، أدركت في وقت متأخر الخسائر الناجمة عن هذا القرار. وأعلن رئيس "الشركة القابضة للغزل والنسيج والقطن" أحمد مصطفى أثناء المؤتمر، أن الحكومة تسعى الى معاودة انتاج القطن القصير التيلة، وانها خصصت نحو 6 ملايين دولار لتحقيق ذلك. لكن الفلاحين ما زالوا في انتظار تحقيق هذا الوعد. تقلص مساحة الأراضي المزروعة في مصر تشهد عليه الأرقام وتصريحات بعض الاقتصاديين، فبعد أن كانت نحو 16 مليون فدان في الخمسينات انحسرت الآن الى قرابة مليون ونصف المليون فدان، وهو ما يساهم بأقل من 1.8 في المئة فقط من الانتاج العالمي. وخلال السنوات الثلاثين الأخيرة احتل القطن أواخر قائمة الصادرات المصرية، فلم تتجاوز عائداته 150 مليون دولار، بعدما كانت تصل الى أكثر من 430 مليوناً في أعوام بريقه. ومنذ الثمانينات وحتى مطلع عام 2003، انخفض الانتاج من 8 ملايين قنطار الى 4 ملايين، أما الآن فلا يتجاوز 106 آلاف قنطار. وتوقّع محللون أن يخرج القطن من منظومة الزراعة المصرية في مطلع العام المقبل، بعدما تحولت مصر الى مستورد لقطن رخيص صُنع في الأصل من قطنها الخام الذي يفترض أن يكون الأغلى في العالم. فسعر قنطار القطن المصري الطويل التيلة الذي تتميز به مصر يبلغ حسب تقديرات الاقتصاديين 230 دولاراً في مقابل 114 دولاراً للقطن القصير التيلة. وتتباين أسباب انهيار هذه الثروة التي شكّلت لفترة طويلة السلعة الأولى لمصانع النسيج في انكلترا ودول أخرى، بدءاً بسوء التعامل مع الانفتاح الاقتصادي على العالم في السبعينات والخصخصة التي رافقته، وصولاً الى ابتلاع الفورة العمرانية للأراضي الزراعية وفشل التسويق والمعوقات البيروقراطية التي تضعها الحكومة أمام المزراعين وتلاعبها بأسعار توريد القطن وعدم التنسيق بين وزراتي الصناعة والزراعة. ويضاف الى ذلك استخدام المبيدات الحشرية المتدينة الجودة، ما تسبب بأمراض فتكت بالمحاصيل، ولأن معظم الفلاحين يكدسون المحصول في بيوتهم فيتآكله العفن في انتظار بيعه. وتجدر الاشارة الى أن ازدياد عدم التناسب بين سعر الكلفة وسعر البيع أثقل كاهل الفلاحين، فكلفة القنطار الواحد تبلغ 570 دولاراً في مقابل بيعه ب 85 دولاراً فقط.