تحتفل الجزائر هذه الأيام بالذكرى الستين لثورتها المجيدة التي انطلقت في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954. وباستثناء الجانب الاحتفالي، أو تنشيط الذاكرة لشخصيات تاريخية كانت صانعة للحدث قبل ستة عقود، أو طغيان للجانب الفخري الذي تحوّل أحياناً إلى بكاء عند أطلال الثورة، فإنها لم تعد ذات تأثير سواء من ناحية إعادة إنتاج منظومة القيم، أو حتى من ناحية تقويم مسيرة الدولة الوطنية المستقلة انطلاقاً من أدبيات الثورة ونصوصها ومواثيقها، ليس لأن الأجيال الجديدة تزاحم جيل الثورة الذي أفل نجمه، وإنما لأن هذا الجيل الأخير هو نفسه تغيّر بما يتناسب مع مصالحه الشخصية بما فيها تلك التي تهدم اقتناعاته التي آمن بها خلال ثورة التحرير، هذا أولاً. وثانياً إن من تبقّى من قادة الثورة أو مناضليها على قيد الحياة لا يزال يعتبر نفسه الحارس الأمين على الثورة، وأوضح مثال على ذلك الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. هكذا إذاً مرّت ستة عقود منذ قيام ثورة التحرير الجزائرية، وأكثر من خمسة عقود على انتصارها، والجيل القديم يعمل على توظيف الماضي للتحكم في الحاضر والمستقبل، الأمر الذي يحول من الناحية العملية دون صياغة رؤية استراتيجية للدولة الجزائرية، لأن أطروحات الماضي الثوري تأتي اليوم مفرَغة من محتواها الحقيقي، إذ إن مرجعية الدولة - ضمن خطاب يظهر عند الأزمات من السلطة ومن المعارضة - هي شعارات الثورة وليست مضامينها. فالجميع يقول بتلك المرجعية ويحتمي بها، ولكنه لا يحتكم إليها، وهي في حقيقتها مقارنة بالعمل السياسي حاضراً - تنظيراً وممارسة - أكثر تنويراً، وأصلح للمعايشة وبناء الدولة من كل أطروحات الحاضر، مهما كان مستوى توظيفها على صعيدَي الحكم وتقسيم الثروة. عمليّاً، ليس مقبولاً من الجزائريين، خاصتهم وعامتهم، نكران المنجزات التي تحققت، بما فيها تلك الخاصة بتطوير الإنسان الجزائري، ولا تجاهلهم تمكُّن الدولة الجزائرية من تجديد جلدها بعد العشرية السوداء من تسعينات القرن الماضي، وإن كانت لا تزال تدفع ثمن حرب الجماعات الإرهابية عليها إلى الآن. وجانب من الفضل في خروجها من أزمتها هو الفعل الظاهر والخفي للورَثة الشرعيين لثورة التحرير، منهم قيادات سياسية وأخرى في مؤسسة الجيش، تماماً مثلما كان بعض رفاقهم مساهماً في إشعال نار الفتنة. لكن تلك المنجزات ليست كافية من ناحية تحقيق الأماني الكبرى، ومنها: الاعتراف بدور الأجيال الجديدة التي هي الآن على مشارف الخروج من زمن صناعة الأحداث سياسياً، بل إنها تدخل مرحلة الإحالة على التقاعد، فقط لأن جيل الثورة أو من بقي منه يصرّ على احتكار السلطة. وأقصد هنا طرح الرؤية الاستراتيجية لجزائر الحاضر والمستقبل، الأمر الذي جعل الجيل الثالث، وأقصد به الشباب تحت سن الثلاثين، يرى في الحديث عن الثورة، أو رفع شعاراتها نوعًا من التحايل والمناورات السياسية، بخاصة أن بعض رجال الثورة يعملون على توريث أبنائهم، أو عشيرتهم الأقربين، مقاليد السلطة في البلاد. القول السابق المتعلّق بمشاركة الأجيال، قد يبدو لبعضهم نوعاً من المبالغة، لأنه عملياً لا يمكن أي دولة وليس الجزائر وحدها، أن تسير نحو الأمام، أو حتى تتراجع من دون إشراك أبنائها من مختلف الأجيال، ليس فقط لأن الحاجة والضرورات والتطور والتغيير تتطلب ذلك، ولكن لأن عامل الزمن يحول دون تعمير قادة الثورة كما هو الأمر في الحالة الجزائرية، إذ إن من بقي على قيد الحياة وكان عمره عندما شارك في الثورة 16 سنة، سيكون عُمْره اليوم إن كان لا يزال على قيد الحياة 76 سنة، وهو عمر لا يسمح بالحكم، إذا اعتبرنا حالة الرئيس بوتفليقة البالغ مع العمر 79 سنة، شاذة ولا يقاس عليها. إذاً لا أحد ينفي مشاركة كل الفئات العمرية في بناء الدولة الجزائرية، بل والمشاركة في الحكم أيضًا، من خلال المؤسسات طبقاً للدستور والقانون، لكن تلك المشاركة محدودة في حركاتها، وتابعة لسلطة أبوية لا تلقي بالاً للتطور في مجال الممارسة السياسية، خصوصًا في العملية الديموقراطية. دليلنا على ذلك رد الفعل الأمني والسياسي على الحركات الشبابية التي قامت بتظاهرات ضد ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة في نيسان (أبريل) الماضي. بعد هذا كله يمكن القول إن ما تبقّى من الثورة الجزائرية، هو مركزية السلطة، رغم وجود تعددية حزبية منذ 23 سنة أولاً، ولجوء إلى التاريخ لتبرير القرارات السياسية ثانيًا، وهوس بالسلطة والحكم إلى درجة المرض (بوتفليقة) ثالثاً، واستعمال الروح الثورية عند اتخاذ قرارات ملزمة للشعب كلّه رابعاً، وإجبار الشعب، بما في ذلك النخبة، على القبول بالقرارات التي يتخذها الحكام حتى لو كانت متناقضة أو مؤثرة سلباً في المصالح العليا للشعب خامساً، والتعامل مع الشعب باعتباره من مكاسب الثورة التي يتصرّف بتركتها ثوار الأمس البعيد سادساً. إن هذا الميراث الخاص، بالثورة الجزائرية، على ما فيه من جمال التحرّر والانتصار، فيه أيضاً تراكم سلبيات الجيل الأول. وخوفاً من أي انعكاسات في ظل الانتفاضات الراهنة في الدول العربية، قبلت غالبية الشعب الجزائري أن تبدو الدولة خارجياً صرحاً متماسكاً، على رغم الغليان الداخلي الذي سيؤدي إلى كارثة يتهدم فيها البناء الكلّي للدّولة، ما لم يسارع الجزائريون إلى إيجاد حل لاستعادة قيم الثورة، ومنها: اختيار الحكام وتغييرهم من دون أن يحتموا في صناعتهم للتاريخ ببطولتهم الحقيقية أو المزيفة. * صحافي جزائري