على الرغم من الترحيب الهائل الذي لاقاه وما زال يلاقيه الربيع العربي، على الأقل من جانب الجموع الجماهيرية في أغلب الدول العربية، نظراً لاشتراك أغلب هذه الدول في الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المزرية. إلا أن الجزائر على الرغم من وجود بعض الأزمات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية تبدو لأسباب خاصة بتجربتها السياسية خلال العقد الأخير من القرن العشرين من الدول القليلة أو المعدودة التي لا ترحب بقدوم رياح التغيير التي يحملها معه الربيع العربي. فتجربة صعود الإسلاميين للحكم في أوائل تسعينات القرن العشرين، وما تبعها من انزلاق البلاد إلى أتون من الحرب الأهلية لمدة عقد من الزمان- العشرية السوداء- أضافت إلى رصيد بلد المليون شهيد مئات من آلاف الشهداء. ومازالت أصداء هذه العشرية المؤلمة والمفجعة حاضرة في ذهن أغلب الجزائريين حتي اللحظة، وهو ما يجعل الغالبية من الشعب الجزائري لا نقول ترفض الثورة، ولكن تحذر أن تكون هذه الأخيرة إعادة للسنوات العجاف التي تحكم فيها الإسلاميون في البلاد (الإرهاب الإسلاموي)، واصطدموا مع المجتمع ومع المؤسسة العسكرية القوية. من ناحية أخرى، فإننا نقول إن استمرار تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، وعجز الحكومة عن معالجة التردي الاقتصادي وحالة الانسداد السياسي التي تشهدها الجزائر بسبب أزمة القيادة السياسية التي قد تنشب في حال غياب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة آجلاً أم عاجلاً، أو بسبب تزايد حدة المظالم الاجتماعية التي تهدد بانفجار الأوضاع الداخلية، كما حدث مؤخراً عندما دعت بعض القوى السياسية المعارضة إلى الإضراب العام والتظاهر ضد الحكومة الحالية. وعلى الرغم من فشل هذه الدعوة، إلا أن استمرار تدهور هذه الأوضاع قد يقود إلى حدوث ما لا يحمد عقباه. فليس معنى خوف الجزائريين من تكرار مشاهد التسعينات، أنهم سيقبلون بتدهور الأحوال وانخفاض مستوى الخدمات المقدمة لهم، وربما حتى انعدامها خصوصاً في المناطق الجنوبية والغربية (مشكلة الجهوية التي تعاني منها الجزائر). إن الجزائر أمامها فرصة كبيرة للإفلات من مصير ما لاقته دول الربيع العربي المجاورة لها تحديداً تونس وليبيا سواء سيناريوهات الحرب الأهلية أو سيطرة الإسلاميين على الحكم من جديد، وذلك عبر تبني باقة إصلاحات سياسية وقانونية واجتماعية من جانب، الدعوة لمؤتمر وطني للمصالحة والدعوة للإصلاح ومناقشة مستقبل البلاد، وثالثاً دعوة الرئيس بوتفليقة لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة بسبب ظروفه الصحية المتأخرة، وهو الاقتراح الذي يمكن أن يجنّب البلاد مغبات الفراغ السياسي والدستوري الذي يمكن أن ينشب بسبب غياب الرئيس غير المتوقع. لنبدأ من البداية كما يقال، فمن المعروف أن ظاهرة ثورات الربيع العربي التي اندلعت منذ شتاء 2010 في تونس اللصيقة بالجزائر لم تكن سوء ردة فعل على تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالأساس، وهي الأوضاع والظروف التي دعت محمد بو عزيزي لإشعال النيران في جسده، ليشعل بعدها الوطن العربي من المحيط إلى الخليج (ذكرت صحيفة الوطن أن هناك ما يزيد عن 20 مواطناً جزائرياً قاموا بحرق أنفسهم مثل بوعزيزي منذ العام 2010) وكذلك الأمر في كلّ من مصر وسوريا واليمن وغيرها من الدول العربية. وبالطبع إلى جانب سوء سجل حقوق الإنسان في هذه الدول. ولكن الجزائر حالة لا يمكن مقارنتها بنفس الدرجة مع تونس أو مصر. فالأوضاع في الجزائر وأحوال المواطن الاقتصادية ليست بمثل هذا السوء، والأوضاع الاجتماعية أيضاً ليست بهذا السوء، خصوصاً فيما يتعلق بشؤون المرأة والشباب. هناك نعم بعض المشكلات لكنها ليست متفاقمة بدرجة مشابهة لبقية الدول العربية، ربما بسبب كثرة العوائد النفطية التي تساعد الدولة على الإنفاق على الاحتياجات الأساسية وإشباعها وتوفيرها. إلا أن تراجع العوائد البترولية مؤخراً (تمثل هذه العوائد حوالي 90 % من الدخل القومي الإجمالي حسب بعض التقارير) وانسداد الأفق السياسي ربما يقضي على حالة الاستقرار الهش الذي تشهده الجزائر منذ بداية الربيع العربي. يراهن بعضهم على عامل آخر، هو حداثة تجربة الحرب الأهلية التي تسبب في وقوعها الإسلاميون في تسعينات القرن الماضي، التي راح ضحيتها ما يزيد عن 200 ألف جزائري، واستمرارها كعائق نفسي أمام الجزائريين، تمنعهم من الثقة في الإسلاميين مرة أخرى، وهو الأمر المؤكد وقوعه في حالة اندلاع الثورة في الجزائر، كون الإسلاميين تقليدياً هم الفصيل السياسي الوحيد القادر على التعبئة وخوض الانتخابات والفوز بها بصورة كبيرة، وهي التجربة التي أظهرتها تجارب كلّ من مصر وتونس وليبيا. لقد لعب هذا العامل النفسي دوراً كبيراً في تحجيم الدعاوى التي انطلقت ودعت للثورة في الجزائر منذ العام 2011 (وربما قبلها) بسبب ما يمكن أن نسميه «الخوف من الاسلاميين». وهو ما وجد تطبيقه بصورة عملية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة حيث حافظت جبهة التحرير الوطني على المركز الأول في الانتخابات، حيث حصلت هي وحلفاؤها على 221 مقعداً من إجمالي 462 مقعداً، وتراجعت نسبة الإسلاميين بنسبة كبيرة مقارنة بالنتائج التي حصدوها في انتخابات 2007. لكن، يجب على الجزائريين المتفائلين عدم الاتكال على مثل هذه الدعاوى، فالإسلاميون نعم يسببون مشكلة كبيرة لأغلبية الشعب الجزائري، قد تمنعهم من الانضمام إليهم وقبول دعاويهم للانقلاب على النظام القائم، لكن، وكما يعلمنا التاريخ، يجب على السلطة السياسية البدء في انتهاج سياسات إصلاحية وتجديدية، تساهم في تخفيف الأعباء عن المواطنين ومحاربة الفساد وفتح الباب أمام الجماهير للمشاركة السياسية الحرة والديمقراطية، وتخفيف القبضة على المجال العام والسماح بانتقادات الفاسدين من المسؤولين الحكوميين وتقديم المذنبين منهم للعدالة. والأهم من كل شيء في رأينا هو البدء في انتهاج سياسات اقتصادية وتنموية جديدة، تحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين والطبقات الاجتماعية، بصورة تساهم في نزع فتيل الصراع الاجتماعي الراقدة نيرانه تحت الرماد. ما يمكن أن يساهم في تجنيب الجزائر أسوأ السيناريوهات في المستقبل هو الإسراع بإجراء تغيير سياسي جذري بصورة طوعية ومتناغمة، دون اضطرابات أو تدخلات عسكرية قد تساهم في تدهور الأوضاع وتفسد مسيرة التحوّل الديمقراطي في الجزائر. وقد يكون الحلّ هنا هو دعوة الرئيس بوتفليقة نفسه إلى الاعتزال السياسي، واختتام مسيرته في العمل السياسي والوطني بتجنيب الوطن مغبات الوقوع في براثن الحرب الأهلية أو عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي على أقل تقدير. لقد قدّم الرجل زهرة شبابه وحياته في خدمة الوطن والمواطن الجزائري، وحتى الرمق الأخير من عمره، ولكن الأمور الآن تعدّت قدراته ولم تعد صحته تؤهله للقيام بما تتطلبه المرحلة القادمة، وكما كان متبعاً لدى الرومان والأباطرة العظام، حان الوقت ليسلم الراية للجيل الجديد، ليقود البلاد إلى بر الأمان في ظل منطقة تعصف بها الأمواج العاتية من كل صوب وحدب، ولا مفر من الخروج منها بأمان إلا بمسايرة ركب الموجة الثورية العربية. إن الجزائر تمتلك أن تقدم للعرب الأنموذج الذي فشل أغلبهم في تحقيقه، وهو تحقيق التغيير الذي تسعى إليه الجماهير الغفيرة بصورة طوعية. وهذه مهام لا يقوم بها إلا قادة عظام، وقد كاد يفعلها جمال عبد الناصر عقب عدوان 1967، ولكنه تراجع تحت ضغط الجماهير … وقد يكون التاريخ يريد أن يكون عبد العزيز بوتفليقة هو أول رئيس عربي يقوم بهذه الخطوة العظيمة .. لتذكره كتب التاريخ باعتباره الرجل الذي وضع مصلحة وطنه قبل مصلحته الشخصية. أكاديمية وإعلامية جزائرية