في الأزمنة الماضية البعيدة كانت الطبول تقرع بين مضارب القبيلة إيذاناً بوقوع حرب وشيكة، ولعل الأمر لا يختلف كثيراً في أيامنا هذه، فالفضائيات باتت تقوم بالمهمة وتقرع الطبول، مع فارق أن أصداء طبول الماضي لم تكن لتتجاوز كيلومترات، بينما طبول الفضائيات صاخبة، عالية الصدى، مستمرة وتحمل مقداراً هائلاً من الضجيج الذي يكاد يملأ الكرة الأرضية. هي الحرب، إذاً، كما أعلنتها الفضائيات. التطورات والمستجدات لا تدعو إلى الطمأنينة، غير أن متابعة الفضائيات تجعل من الحرب أمراً محتوماً. لا مجال، هنا، للفرضيات، بل أن الحرب المنتظرة بدأت على الشاشات فعلياً. تحليلات عسكرية عميقة تشرح للمشاهد كيف ستنطلق الصواريخ من البوارج والقواعد العسكرية، وأي مسار ستسلك، ومدى سرعتها، وما هو الموقع المستهدف. خرائط توضح طبيعة الأهداف التي ستكون فريسة للضربات. رسومات غرافيكية تظهر الحرائق والطائرات المغيرة وتشير إلى حجم الدمار الذي سيقع. تضاريس سورية أصبحت مكشوفة أمام توقعات الخبراء الاستراتيجيين، وهم كثر، وسيناريوات المعركة ترتسم بجلاء في أذهان الساسة والمراقبين الذين يعبرون عن التمنيات أكثر مما يستندون إلى القراءة السياسية الهادئة. لن نجزم، هنا، ان المعركة ستقع أم لا، فهذه مسألة تحدد في عواصم القرار العالمي، وهي، ووفقاً لتصريحات رسمية، لم تحسم أمر الضربة إلى اللحظة. لكن الغريب، حقاً، أن يظهر ضيوف وهم يتحدثون بنبرة واثقة من أن التدخل العسكري خيار لا شك فيه. فضائيات كثيرة تريد ان تسمع هذا الكلام وتروّجه، وتكرره وتبالغ فيه، وفضائيات أخرى، وهي قليلة على أي حال، ترجح فرضيات أخرى ليس بينها الخيار العسكري. إن هذا التصعيد الفضائي يزيد قتامة الواقع القاتم على أي حال، بيد ان الاشاعات والمبالغات تخلق حالة من الخوف والذعر، ولعل هذا ما دفع بعشرات الآلاف من السوريين للتوجه نحو لبنان، وأعداد مماثلة فرت إلى تركيا وكذلك الأردن وكردستان العراق، فيما يستمر المحللون في التحريض من الاستوديوات المرفهة. والسؤال الأساسي يتمحور، هنا، حول دور الفضائيات في مثل هذه الأوقات الحرجة، وإلى اي مدى هي قادرة على تقديم صورة صادقة عن حقيقة ما يجري. ولئن سعى المرء إلى البحث عن إجابة لن يجد سوى خطابين متناقضين. خطاب يخفف من خطورة الأمر إلى حد السذاجة، وآخر يبالغ إلى حد الهلع. في الحالين ثمة تزييف لا يأبه بحال أولئك الأطفال الذين يسلكون طرقات النزوح وسط أسئلة غامضة وبريئة لن يجدوا لها جواباً وسط هذا الصخب الفضائي، صخب يكاد يعادل دوي الصواريخ التي ستمحو ملعباً أو حديقة أو مدرسة كانت، ذات يوم، محطة للهو والمرح. لغة المشاعر تختفي وسط ركام الصور والتحليلات، ولا أحد يراعي حلم السوري في قليل من الأمل والأمان، فطبول الحرب تقرع، ومصائر البشر ترسم على الشاشات قبل أن يحددها الطغاة أو الجيوش.