يلجأ بعض الكتّاب إلى وضع ملاحظة تفيد بأن لا صلة بين أحداث رواياتهم وبين الواقع، وان أي تطابق هو محض صدفة. والواقع أن هذا التنبيه يخلق فضولاً لدى القارئ، فيجتهد للبحث عن قرائن وأدلة تربط أحداث الرواية بشخصيات وأمكنة حقيقية. قد يعثر على التشابه فيشعر بالرضا، أو قد يخفق، فيكتفي بمتعة السرد المتخيل. الروائي الأميركي ويليام أ. كوك يضع، بدوره، تنويهاً في مستهل روايته «أحداث نيفاريا» (دار الشروق - عمان، رام الله) يشير فيه إلى ان حكايته خيالية، وهو بذلك يعفي نفسه من أي تشابه بين أحداث روايته وبين مثيلتها على أرض الواقع. لكن اللافت ان هذا التنويه سرعان ما يتبدد ليكشف، منذ الصفحات الأولى، عن أحداث ووقائع وشخصيات نعرفها، وعشنا مآسيها منذ أكثر من نصف قرن. «أحداث نيفاريا»، التي ترجمتها سعاد عبدالرؤوف قرمان، ما هي إلا تجسيد لمعاناة الفلسطينيين، وتصوير للقمع الذي يمارسه الاحتلال الاسرائيلي ضد هذا الشعب الذي شرّد وهجّر، وسُلبت أرضه فعاش في المخيمات والمنافي أو ظل يقاسي تجربة الاحتلال المريرة. رمزية اسماء الأمكنة والشخصيات، وايقاعها الاغريقي الاسطوري لا تنجح في إخفاء إشارات وتلميحات تضع القارئ في أجواء المعاناة الفلسطينية وفصولها التي لا زالت تتوالى. يروي كوك حكايته بعيداً من أي انفعال. يصف المأساة في بعدها الانساني والأخلاقي، حتى انه يصف عمله ب «الرواية الأخلاقية». لا يتورط كوك، الذي أصدر كتباً حول القضية الفلسطينية، في فجاجة الشعارات. يبتعد من التحريض الدعائي المجاني ليلامس الضمائر والوجدان. هي، إذاً، حكاية نيفاريا (التي ترمز إلى اسرائيل)، وإليوسيا (التي ترمز الى أرض فلسطين)، وديسبيريا المقدسة (التي ترمز إلى القدس). وفحوى الحكاية تتمثل في أن جنرالاً كبيراً من نيفاريا، هو ديماس، يرقد في المستشفى بلا حراك بعد أمجاد زائفة. تعتني به ممرضة هي إحدى ضحاياه الكثر. ارتكب الجنرال من الفظائع ما يتسامى القلم عن تدوينه. يصف الكاتب بطله المريض على هذا النحو: «كان المريض يرقد على سريره بلا حراك. كان وجهه شاحباً كالرخام، وقد تكورت ملاءة السرير كمشمع مشدود تحت جسده الهامد، وبدا كناووس القرون الوسطى... هو يتنفس من دون شعور أو ادراك بواسطة جهاز التنفس الصامت. إنه يرقد كجثة أعدت للنظرة الأخيرة في بيت الموتى. صمت كئيب يغمر الغرفة كغطاء نعش. عتمة المساء تلقي بظلالها القاتمة على الأشجار العارية. ولا صوت سوى أنين الرياح ينعى سقوط البطل الذي لا يزال يعيش متجاوزاً الموت نفسه». بهذه النبرة الحزينة تقدم الرواية بطلها «السمين والقصير والمنتفخ»، الذي يعيد الى الأذهان شخصية آرييل شارون، رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق، كما يخمن القارئ. لكن، وبمعزل عن هذا التطابق، فإن ما يلفت الانتباه ان هذا الرجل القوي الذي أحرق الاخضر واليابس، والذي سجل لشعبه بطولات على حساب عذابات الآخرين، وكان الرجل الذي يبعث الهلع في النفوس هو الآن مجرد جثة مرمية على سرير لا يأبه لأمره أحد سوى الممرضة هوميليا. هنا أيضاً ثمة مفارقة، فالممرضة تنتمي الى الإليوسيين (الفلسطينيين) وهي تعي الجرائم التي ارتكبها مريضها، بل انه تسبب في إعاقة والدها. لكنها تظل محافظة على انسانيتها. تترفع عن نزعة الثأر والانتقام. تتمسك بنداء الحنان في داخلها كممرضة قاست مع شعبها الويلات من دون أن تحمل في روحها أي حقد. القائد المبتلى، محكوم عليه بالرقود في غيبوبة، منسي في مستشفى يصارع شياطينه، والممرضة الملاك تتمسك بأسلوبها في النضال، عبر الاهتمام بهذا المريض المسؤول عن شقاء شعبها، لتحافظ على انسانيتها. الموقف المتسامح ذاته يجسده شقيقها اسماعيل الذي يعمل في مجال حقوق الانسان ويوصي شقيقته بالاهتمام بالمريض، وكذلك كاتيا، زميلة هوميليا، التي تقاسمها شعور الرفق بالمريض. وسط احتفال شعب نيفاريا بعيد الغفران في نهاية السنة، وضمن طقوس دينية مقدسة، يعود الكاتب مع بطل الرواية الجنرال ديماس سنوات الى الوراء. يرصد محطات دامية ومؤلمة كان فيها الجنرال قائداً يقود فرق الموت في أرض إليوسيا. زرع في كل بيت مساحة واسعة من الألم والحسرة. إنه يبرر كل هذا الشر بفقدانه لابنه في حافلة مدرسية إثر انفجار. حينئد اقسم الجنرال انه سيفني «هؤلاء البرابرة». عمل كل ما في وسعه لتنفيذ القسم، وكان، حقاً، وفياً لقسمه. بيد انه الآن راقد في ليل لا نهائي كئيب. يمضي وقته بلا شمس، بلا ظلال، بلا غيوم. لا أحد يواسيه في عزلته سوى الممرضة هوميليا، التي تنتمي الى أولئك «البرابرة». الرواية، بهذا المعنى، تطرح ثنائية الضحية والجلاد. ثنائية الخير والشر. لا التباس في خطاب الرواية. الكاتب يعرف جيداً كيف يفصل بين أصحاب القضية العادلة وبين من اغتصب الأرض. ستتكرر في النص مفردات وعبارات لطالما سمعناها في نشرات الأخبار من قبيل الحواجز، والأسلاك الشائكة، ومنع التجول، وجرف حقول الزيتون، وتصاريح المرور... بل ثمة إشارة إلى المستوطنات، وكيف «أُحضر الشعب المختار الى أرض الميعاد»، إلى نيفاريا التي «تبدو على الخريطة كقلامة ظفر في ابهام ممتد من يد مضمومة، تحيطها من ثلاث جهات شعوب مجاورة، ومن الغرب البحر». تستشف الرواية أعماق الجنرال عبر مونولوغ طويل، متخيل ينقل انفعالاته وأحاسيسه ومشاعره. يعترف في غيبوبته بأنه «لم يغالط نفسه وهو الذي أمر بذبح أولئك الأبرياء المحتجزين في المخيمات شيوخاً وأطفالاً ونساء. وهو الذي ابتهج بوحشيّة جنوده». فلسفته في الحياة هي «القساة يحكمون والبلهاء يتبعون، والرحمة ضعف»، وهدفه «صعّبوا حياتهم كي يرحلوا». يحفل قاموسه بكل مفردات الشر، بينما تجسد الممرضة الوجه الآخر، وجه العدالة والحق والتسامح. لقد أربكت المريض ذاته، فراح يخاطبها بصمت قلق: يا ملاكي، أيّة سخرية هذه؟ أهي مأساة أم ملهاة، أن تعتني الضحية بالجلاد؟». يقسم كوك، أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة لافيرن في كارولينا الشمالية، روايته الى سبعة أقسام، وهي بمثابة سبعة فصول: التيقظ، التواضع، الندم، الاعتراف، الكفّارة، العفو، وأخيراً الثواب والعقاب... وعبر ذلك سنراقب مشاهد تبدو وكأنها قادمة من عمق الأساطير وطقوس الديانات. لكن سرعان ما نعثر على صور وأفكار تذكرنا بالعالم الراهن، وما يحدث فيه من ظلم وجور. لا يقتصر الأمر على فلسطين، فحكايات الحرمان والتشرد والأسى تكاد تطبع عالم اليوم. حكاية كوك، وإن غلفت باسماء وشخصيات مستعارة، غير ان تفاصيلها تبدو مألوفة تتكرر في بلدان أميركا اللاتينية وافريقيا وآسيا. تمثل الرواية مرافعة أخلاقية تنتصر للمعذبين في الأرض وتندد بالطغاة والمحتلين، وهي تنطوي على حس انساني رفيع. ولا يخفي الكاتب انحيازه اللامحدود إلى جانب أصحاب القضايا العادلة، الخاسرة. هو يعلن ذلك بدءاً من الصفحة الأولى حين يهدي روايته إلى «جميع الذين تعذبوا ويتعذبون على ايدي المخادعين والقساة والمخبولين».