عبد الوهاب الفايز - الاقتصادية السعودية الأحداث في المنطقة ومشاهد الدم والتدمير والبطش تترك أثرها النفسي والفكري السلبي المخيف على الناس، بالذات في الجبهات الساخنة مثل ليبيا، إذ يبدو أن ما يحدث في ليبيا الآن يكرر سيناريو العراق، حيث استمرت مشاهد العنف في العراق لسنوات، فصدام حسين بقي تحت إدارة الأممالمتحدة ومراقبتها وتحت الحصار الدولي وهذا الوضع أعطى الدول الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة المظلة القانونية أمام العالم للتدخل القوي في شؤون المنطقة. الآن ليبيا القذافي تهيئ الفرصة الذهبية للتدخل في الشأن الإفريقي تحت مظلة إدارة الحرب في ليبيا، فقد تم سحب البساط من تحت الثوار حتى لا يندفعوا بشكل كبير ويحسموا الوضع، وهنا قد لا تتحقق الفرصة للتواجد العسكري الدائم وإنشاء قاعدة رئيسية لحلف الأطلسي. منذ عشر سنوات دخلت قارة إفريقيا ضمن الحسابات الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي، بالذات شمالي القارة، والهدف طبعاً تنويع مصادر الطاقة، وهو الهدف نفسه الذي تهرول له الصين وأوروبا، وهذه (الهرولة) تفسر بشكل واقعي مدى الفائدة الكبيرة التي سوف تترتب على إدخال مصادر الطاقة في ليبيا تحت المظلة المباشرة للتأثير القوي للحلف الأطلسي الذي يتجه الآن عبر نشاطه وسرعة حركته للبروز كقوة مهيمنة رئيسية في النظام العالمي الجديد، وبالطبع مفتاح القوة لهذا الدور يأتي عبر الهيمنة القوية المباشرة على البحر الأبيض المتوسط، وربما هذا يفسر توجه دول الحلف لترتيب أوضاع دول الشرق الأوسط المطلة على هذا الحوض الاستراتيجي المهم. السيناريو القريب في ليبيا أبرز ملامحه إتاحة الفرصة للقذافي عبر كتائبه الدموية لإنهاك المقاومة وتشتيتها وبعد ذلك ستكون الأرضية مهيأة لقوات الأممالمتحدة الممثلة في الحلف الأطلسي لتولي إدارة البلاد أو الجزء الشرقي، وهذا هو الأقرب، أي تحويل ليبيا إلى دولتين/ ولايتين كما حدث في العراق، حيث بقي الجنوب والشمال تحت الحماية الدولية حتى تم ترتيب الظروف الدولية والإقليمية لاجتياح العراق واحتلاله. هناك أيضا تطبيقات بعيدة المدى لهذا التوجه. أمريكا وحلفاؤها الأقوياء في أوروبا يهمهم وجود منطقة عازلة بين مصر والجزائر، لذا مصالح أمريكا وأوروبا تستدعي التواجد القوي في ليبيا تخوفاً من وجود بيئة سياسية مولدة لأفكار وتوجهات قد ينتج عنها بروز قوة إقليمية بتوجهات تتصادم مع المصالح الغربية، وأبرز تخوف مطروح في إطار هذا السيناريو هو بروز أحزاب بتوجهات إسلامية في مصر أو الجزائر تصل إلى السلطة. التواجد في ليبيا يعطي مرونة وحركة في القارة الإفريقية أو يوفر بديلا استراتيجيا عن التحالف المصري إذا سارت الأمور في مصر مع الانفتاح السياسي وإمكانية دخول قوى سياسية جديدة ربما لا تكون في وفاق مع الرؤية والمصالح الأمريكية في المنطقة. والبديل الليبي سيمكّن من الإشراف القريب على الترتيبات السياسية والأمنية في إفريقيا التي ستكون ساحة اهتمام جديدة في العقود القادمة، إذ يتوقع أن تكون المصدر الثاني المهم للطاقة بعد الشرق الأوسط. وقضية الطاقة بالذات لأمريكا في السنوات القادمة تعد مصيرية وحاسمة في ظل ظروف الاقتصاد الأمريكي الصعبة، وقد أشار إلى أهمية استقرار واردات النفط في الشرق الأوسط جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا في عهد بوش الأب وأحد أبرز مهندسي سياسة الطاقة في أمريكا، ففي لقاء مع (CNN) قبل أيام أكد أن السنوات الخمس القادمة، ومع توقع وصول الدين الحكومي لأكثر من 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، سوف تجعل أمريكا أمام خيارات صعبة قد تهدد تفوقها العالمي كقوة عظمى، ويرى أن استقرار إمدادات الطاقة من الشرق الأوسط مهمة جدا لتجنب أي مضاعفات ضاغطة على الاقتصاد، بالذات بعد إقرار خطة التخفيض الكبرى للإنفاق الحكومي، التي أقرت أخيرا والمحتمل أن يتولد عنها مشاكل قد تستدعي عودة الإنفاق الحكومي لاحتوائها. الذي نرجوه هو أن تلتقي رغبة أمريكا وأوروبا وبقية الدول الكبرى على أهمية (استقرار إمدادات) الطاقة وحيويتها لاقتصادهم وللعالم .. تلتقي مع رغبتنا في (استقرار إمدادات) الحياة الكريمة لشعوب المنطقة، فالصراعات حول النفط التي شكلت ملامح القرن الماضي وتسببت في المآسي والعذاب لشعوب المنطقة، نرجو أن تنتهي، ولعل أمريكا ومعها أوروبا تكونان جادتين في إقامة السلام، فإذا استمر الصراع حول مصادر الطاقة في الحقبة القادمة فسيكون مدمرا للجميع، لأن المجتمعات صاغت حياتها على (الإدمان) على الطاقة. هيلاري كلينتون أمام المجتمعين في (منتدى أمريكا والعالم الإسلامي) قبل بضعة أيام كشفت أن الحقبة القادمة ستشهد قيام مبادئ جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية تقوم على (الشراكة مع الشعوب) بدل الحكومات، هذا المبدأ نرجو أن يكون صادقا ويعكس (عقيدة سياسية) تثمر عن توجهات جادة تلقى التطبيق الفعلي الذي لا تعبث به المصالح الخاصة للمؤسستين المالية والعسكرية ولا تختطفها الأجندة الصهيونية للمحافظين الجدد في أمريكا .. والآن الظروف في المنطقة تتيح الفرصة لتطبيق التوجه للأمن والسلام والتعاون الخلاق الذي يحول التحديات والمشاكل إلى فرص للبناء والسلام في الشرق الأوسط الجريح المتعب.