صارت العشرية الدموية في الجزائر أقرب إلى الاستنساخ في مصر. ولا يبدو أن عشرات الآلاف من الضحايا وانهيار الاقتصاد والاستسلام إلى مشاعر الرعب، ستحول دون هذا الانجذاب الذي آل إلى حل «جبهة الإنقاذ» الإسلامية. ومع الفارق الكبير في معطيات التجربتين الجزائرية والمصرية، أقله أن «الإنقاذ» لم تمارس السلطة، فيما الحركات الإسلامية المعتدلة لم تعد تُقلق الشركاء الغربيين، فإن مفهوم الاعتدال والتطرف لم يحسم في إشكاليات السلطة. الذين كانوا يصنفون في خانة الاعتدال باتوا أقرب إلى التطرف. وأحكام القيمة لم تصدر عن الغرب، بل إن الحفاظ على السلطة بأي ثمن، هو ما يكيف الوقائع والأحكام. وإنها لمفارقة أن تكون الفئات التي ساندت حكم الإسلاميين في مصر هي التي زادت مخاوفها جراء دخول البلاد منعطف التطرف الأعمى، إذ تسود لغة السلاح على ما عداها من وسائل الحوار والإقناع وقابلية التعايش والتساكن. يصعب حقاً وضع هامش كبير بين المفهومين، طالما أن الاعتدال كقيمة وقناعة لا يمكن أن يتحول إلى تطرف. بينما الأخير قد يجد لنفسه مسوغات عند المراجعة الفكرية والنقدية للعودة إلى مربع الاندماج. وحتى عند افتراض أن تعليق الحياة السياسية التي كانت سائدة إلى ما قبل عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، كان في مقدم أسباب اندلاع المواجهة، فإن استرداد السلطة، وفق المفهوم الديموقراطي لا يكون عبر الدخول في مواجهة، تتخذ من الشارع سلاحاً. في تجربة الجزائر كان الانطلاق من الفراغ الذي أحدثه نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، في إطار هيمنة الحزب الوحيد، وانبثاق جبهة «الإنقاذ»، جاء على خلفية الانتقال إلى صيغة التعددية السياسية والاتجاه إلى اقتصاد السوق، والإفساح في المجال أمام نخب جديدة من غير جبهة التحرير والموالين لها. وكان مفهوماً أن تغييراً بهذا الحجم لا بد أن يطاول بنيات النظام والمجتمع في ظل تأثير عقود الاستعمار الفرنسي الطويلة ومحاولات تشويه هوية البلاد. لكن إسلاميي الجزائر لم يتعرضوا لأي تضييق أو اضطهاد، لأنهم لم يكونوا موجودين كحزب سياسي. وإنما تيارات فكرية وتنظيمات تنشط في المجال الدعوي. فيما «الإخوان» كانت لها تجارب سياسية مريرة اتسمت بأقصى درجات التضييق ومحاولات إزاحتها من الصورة. وإذا كان مفهوماً أن تتفرغ فصائل من «جبهة الإنقاذ» تبنت العنف وراحت تحتمي بجبال الأوراس والأحراش في مواجهة بطش الجيش، فإن الأمر مختلف، أو كان يفترض أن يكون كذلك بالنسبة لإسلاميي مصر الذين راكموا رصيداً لا يستهان به في محطات المواجهة. في الخلاصة تعب الجزائريون من تداعيات الصراع الدموي، وذهبوا يبحثون عن وئام لمن يرتضيه، وعذرهم في ذلك أنهم راهنوا بدورهم على تغيير قادم من صناديق الاقتراع، لكنهم ضجروا حين أفرغت الصناديق أسوأ ما في التجربة، أي غياب الأمن والاستقرار وخاصية الانتساب إلى الوطن لا إلى حزب أو جماعة. ولا يمكن الشارع المصري أن يكون استثناء في رفض العنف، والذين تظاهروا في ميدان التحرير كانوا يريدون تغييراً سلمياً، لا مجال للتشكيك في بعده الديموقراطي، فيما أن مناصري الرئيس المعزول أرادوا استمرارية بغير روافد ديموقراطية. بدليل أن تمسكهم بالشرعية لم تعزز مبادرات ديموقراطية. أقلها أن عودة مؤجلة إلى صناديق الاقتراع، أفضل من لا عودة. أن حكم الإسلاميين في مصر لم يواجه عدواً خارجياً أو تحديات أجنبية، بل غضباً داخلياً، وكم تبدو الخلاصات متشابهة، بين أنظمة تحصنت للدفاع عن نفسها ونخبها. وبين الذين يدافعون اليوم عن سلطة حكم ضاع منهم، لأنهم لم يعرفوا كيف يحافظون عليه. لكن لماذا كل هذا الفخر من حكم لا يقاس بالسنوات، إن لم تكن ثمة اختلالات راكمت حدة الانزعاج. وهل يكفي القول بأن الشرعية تعرضت لانقلاب لمحو كل الأخطاء. وهل كان ضرورياً أن تتطور المواجهة إلى مرحلة اللاعودة؟ تطلب التوصل إلى صيغة الوئام في الجزائر إرادة قوية، بعدما خلف الصراع ضحايا بلا قبور ولا شواهد. وأشد ما يخشاه المرء أن تنجذب أرض الكنانة إلى مجاهل التجربة الجزائرية المريرة. وبالقدر الذي أظهرت فيه الأحداث مخاطر استخدام الدين لأهداف سياسية، بالقدر الذي يتعين إقرار تصورات جديدة تحظر تشكيل الأحزاب على أسس أو منطلقات دينية أو عرقية أو طائفية. فذاك أسلم من تعريض هوية المجتمعات العربية إلى المزيد من التناحرات الطائفية. ولما تخمد بعد جراح التناحرات الطائفية.