في غياب السياسة وسيادة قرار المواجهة في الشارع يخيم شبح الحرب الأهلية في سماء مصر. استقالة الدكتور محمد البرادعي وغسل إمام الأزهر الدكتور أحمد الطيب يديه مما يجري، كانا مؤشراً إلى استنفاد المحاولات الداخلية لتسوية الأزمة بين «الجماعة» وخصومها. كانا إشعاراً بإغلاق الباب أمام المصالحة أو إبرام صفقة. لم يبق سوى الخارج، مهما حاولت الحكومة الانتقالية إدانة التدخل من وراء الحدود. واشنطن وشريكاتها الغربية دانت قرار فض الاعتصامات. ومجلس الأمن بدأ تحركه وإن لم يخرج منه أي قرار. اكتفى حتى الآن بإيفاد الأمين العام للأمم المتحدة مساعده للشؤون السياسية جيفري فيلتمان إلى القاهرة. والاتحاد الأوروبي يتنادى لإعادة النظر في علاقاته مع مصر. هذا التدخل يعزز محاولات «الإخوان» تجييش المجتمع الدولي للوقوف إلى جانبهم، ويدفعهم إلى التشبث بمواقفهم. لكنه في الوقت عينه يكبدهم المزيد على المستوى الشعبي. وفي مواجهة هذا التعاطف الدولي مع «الجماعة» ثمة شبه إجماع عربي على تأييد الخطوات التي تتخذها حكومة حازم الببلاوي وإجراءات المؤسسات العسكرية والأمنية. من المبكر التكهن بمآل الأوضاع. خيار «الجماعة» خوض المواجهة في الشارع لن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. لن يعيد الرئيس محمد مرسي إلى كرسيه. لن يعيدها إلى مواقع القرار ولن يعيد إليها أرجحيتها أو شعبيتها التي كانت لها عشية الانتخابات الرئاسية قبل سنة ونيف. في المقابل لن يكون بمقدور المؤسسات العسكرية والأمنية أن «تشطب» 10 أو 25 في المئة من مجموع المصريين. ولن يكون بمقدور الحكومة الحالية إلغاء وجودها بقرار حلها أو حل حزبها «التنمية والعدالة». حلها النقراشي باشا عام 1948 لكنها بقيت. ودفعتها «ثورة يوليو» عام 1952 إلى «الأنفاق» والسجون والمنافي. لكنها بقيت بعدما استولدت جماعات تكفيرية وجهادية لا تزال تقاتل في سيناء إلى اليوم. وإذا قدر لخصومها أن يعيدوها إلى العمل تحت الأرض فإنها ستستولد مزيداً من أمثال هذه الجماعات المتطرفة. اختارت «الجماعة» المواجهة المباشرة والمفتوحة. هدفها إرهاق المؤسسات العسكرية والأمنية واستنزافها والحؤول دون تحقيق «خريطة المستقبل». فهي تدرك أن تمثيلها الذي جنت بعد رحيل نظام الرئيس حسني مبارك لن يتكرر. ولعلها تستذكر اليوم عنادها في صم آذانها عن مناشدات خصومها السياسيين ونصائح العسكر. وتستذكر خطأها الكبير عندما تعامت عن رؤية الملايين التي نادت بسقوط حكمها يوم الثلاثين من حزيران (يونيو) الماضي، ولم تعِ مضمون التفويض الشعبي الواسع للمؤسسة العسكرية. وهي ترى إلى غرق البلاد في الفوضى فرصة لدفع الناس إلى التململ من مفاعيل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتفاقمة، مستفيدة من التعاطف أو الدعم الأميركي والأوروبي والتركي والإيراني حتى النهاية. تحار أكثرية المصريين حيال أسباب هذا التعاطف الدولي. تخشى أن تؤدي ردود الفعل الأميركية والأوروبية، وانتقاداتها للمؤسسة العسكرية إلى نقيض ما تتوخاه العواصم الغربية، وما تأمله هذه الأكثرية التي ملأت الميادين بالملايين في 25 يناير ثم في 30 يونيو. تخشى أن تدفع الجيش إلى إحكام قبضته على الحياة السياسية برمتها فتغيب كل الآمال التي علقت على الثورة. ويعاد إنتاج النظام العسكري السابق. فعندما قامت «ثورة 23 يوليو» عام 1952 التف الشعب المصري حولها ورحب بتسلم الجيش مقاليد الحكم. لكن الحصار والضغوط الخارجية التي تعرض لها حكم «الثورة» دفعها إلى تشديد قبضتها على الحياة السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والاجتماعية... وغابت الحياة الديموقراطية في مصر طوال ستة عقود ونيف، وإن بقي لها فولكلور الانتخابات والاستفتاءات المعلبة سلفاً. والواقع أن فض الاعتصامين في رابعة العدوية والنهضة وما تلاه من مواجهات في الأيام الأخيرة أتاح عودة «مظفرة» للشرطة. عاد إليها دورها في مواجهة أي تحرك مدني في الساحات والميادين. بل إن أوامر حكومية صدرت لها باستخدام الرصاص الحي إذا ما تعرضت لمواجهة بالنار من جماعات «الإخوان» أثناء تأدية واجبها في فض التجمعات. ألم يكن بين أهداف شباب الميادين قبل سنتين ونصف السنة «تطهير الأجهزة» وعودتها إلى حضن السلطة السياسية ليظل دورها تحت الرقابة المدنية؟ ألم يكن على رأس دعواتهم خروج العسكر من الحياة السياسية إلى ساحات الثكن والحدود؟ إن اتساع دورة العنف في مصر سيطيل عمر المرحلة الانتقالية التي يعول عليها خصوم «الجماعة» أكثر مما يتمنون ويستعجلون، وإن كررت حكومة الببلاوي تمسكها ب «خريطة المستقبل». وهذه وصفة ناجعة لبقاء الجيش في سدة القرار الأول والأخير في أي نظام حكم مقبل، لبقائه شريكاً أساسياً في الحكم، أياً كان شكل النظام المدني الذي ستخرج به المرحلة الانتقالية الحالية، إذا توصل المصريون إلى وقف دورة العنف. أو إذا نجحوا في تحقيق نوع من المصالحة التي تعيد إلى أهل الميادين بعض طموحاتهم التي نادوا وينادون بها منذ 25 يناير. قرار وقف العنف يظل في أيدي «الجماعة» وجميع الذين يبدون اليوم تعاطفاً معها، من واشنطن إلى أنقرة. لا شك في أن موقف الإدارة الأميركية يقدمها على الصورة التي أراد نشرها الرئيس باراك أوباما منذ وصوله إلى البيت الأبيض، عندما عرض المصالحة مع المسلمين من القاهرة ومن أنقرة. لكنها تدرك جيداً أن موقفها الأخير لم يقنع المصريين، بل سيدفعهم إلى التراص خلف الجيش. لقد خرج الرئيس أوباما بعد اندلاع «ثورة 25 يناير» داعياً الرئيس مبارك إلى الرحيل بلا تأخير. وهو ما لم يفعله في 30 يونيو بعد خروج أضعاف أضعاف الذين خرجوا في يناير مطالبين الرئيس محمد مرسي بالرحيل. هؤلاء خرجوا بعدما ظلوا لأشهر يؤكدون رفضهم المطالبة برحيل الرئيس «الإخواني» المنتخب. كان مطلبهم وقف «أخونة» الدولة وتغيير هويتها. وكان مطلبهم تقريب موعد الانتخابات، أو إجراء استفتاء على حكم الرئيس، كما حاول وزير الدفاع إقناعه عبثاً. ولكن، بدا واضحاً أن مرسي لم يكن يملك حرية القرار. كان القرار في يد المرشد وإدارته التي كانت تستعجل تمكين قبضتها على كل شيء، من دون أن تلتفت إلى معاناة الناس الذين اختاروها بعد معاناة طويلة مع النظام السابق. ومن دون أن تلتفت إلى وجود شركاء في التحولات التي شهدتها البلاد. كأن «الثورة» التي التحق بها «الإخوان» قامت لتمهد لهم سبل الاستيلاء على السلطة إلى الأبد... حتى وإن أدى ذلك إلى حرب أهلية وتفكيك النسيج الاجتماعي لمصر، على غرار ما يتعرض له الأقباط ومؤسساتهم هذه الأيام. لا مبالغة في أن مآل الأزمة في مصر سيترك آثاره البالغة على خريطة العلاقات المعقدة والمتصارعة في المنطقة كلها، وعلى شبكة المصالح المتداخلة إقليمياً ودولياً. سيساهم في تعميق التباعد بين سياسات يفترض أنها تلاقت طويلاً. المواقف الدولية من الأزمة السورية أحدثت تباعداً مع كثير من الدول العربية. ومثلها المواقف الحالية مما يجري في مصر تعمق هذا التباعد. دول عربية عدة على رأسها المملكة العربية السعودية جاهرت علناً بدعمها الحكم الانتقالي الحالي في مصر سياسياً ومادياً. ذلك أن تجربة «الإخوان» في السنة الوحيدة من حكم الرئيس مرسي لم تكن مطمئنة لهذه الدول. الغزل الذي دار بين الحكم الجديد في القاهرة وإيران فاقم مخاوف دول الخليج ودول عربية عدة من احتمال قيام تحالف بين الطرفين يدفع ثمنه هؤلاء الذين يخوضون صراعاً مفتوحاً مع الجمهورية الإسلامية للحد من تمدد نفوذها في الإقليم. وما عزز المخاوف أن تعود تركيا التي لا تزال ذكريات كثير من العرب عن دورها قبل مئة عام حية ومؤلمة، إلى قيادة هذا المشروع «الإخواني» في المنطقة كلها. في حين كان هؤلاء العرب يتوقعون أن تكون أنقرة عوناً لهم في مواجهة التمدد الإيراني. وفوق هذا وذاك ما كشفته دوائر أمنية خليجية، في دولة الإمارات وغيرها، عن خطط يعدها «التنظيم الدولي للجماعة» لتحريك الأوضاع في دول مجلس التعاون تمهيداً ل «وضع اليد» على اقتصادات هذه الدول، على طريق قيام سلطة «الإخوان» في المشرق كله. المطلوب أن تبادر تركيا إلى تصحيح الخلل الذي يكاد يقضي على آخر ملامح سياستها ومصالحها المتداعية في المنطقة، من العراق إلى سورية ولبنان... والخليج. عليها أن تمارس دالتها على «إخوانها» في مصر للعودة إلى المسار السياسي الذي وحده يحقق أهداف «ثورة 25 يناير» ويعطي لكل القوى أحجامها الطبيعية. وعلى واشنطن وشريكاتها، بعد هذا التعاطف مع «الجماعة»، استخدام هذا الرصيد بالسعي لإقناعها بوقف الانجرار إلى دورة العنف. لأن في ذلك السبيل الوحيد والناجع لاستعجال عودة العسكر إلى ثكنهم، ولإحياء المسار الديموقراطي... وللحفاظ على الأقباط ومؤسساتهم بدل الدعوات إلى حمايتهم وما تثيره في نفوس المصريين من مخاوف على الهوية والكيان! المطلوب من المتعاطفين مع «الجماعة» التحرك السريع لإنقاذهم من أنفسهم من أجل إنقاذ مصر أولاً كياناً وشعباً، واستعجال المصالحة ليس بين المصريين فحسب، بل بين... الشركاء الدوليين والإقليميين في المنطقة الذين يقع على عاتقهم الحؤول دون سقوط أكبر الدول العربية ومعها الإقليم كله في الفوضى القاتلة، لأنهم لن يكونوا بمنأى عن هذا السقوط وأكلافه وتداعياته.