تتعدّد أنواع الاحتلال، وأبشعها ليس احتلال الأرض فحسب، إنما أيضاً تجهيل شعبها وعرقلته حضارياً. لذلك، فإن التمسك بالحياة ومواصلة التعليم، وممارسة الهوايات الرياضية والفنية، وسوى ذلك من تجليات، تعدّ في أحد وجوهها مقاومة حضارية للمحتل. ما تقدّم دفع المصور البريطاني سامي هيفن إلى تسجيل هذا النوع من «المقاومة» عبر عدسة كاميرته التي التقط بها تفاصيل الحياة في قطاع غزة قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليه، وقدمها صوراً فوتوغرافية في معرض حمل عنوان «ياسمين تحت الحصار»، احتضنته دارة الياسمين في جبل اللويبدة في عمّان. ضم المعرض صوراً وضعت على «ستاندات»، قسم منها عرض داخل دارة الياسمين، والثاني في حديقتها. وقدّم هيفن فيلماً يظهر صوراً بالتتابع، وفي فترة لا تتجاوز 30 ثانية، تفصل بين ظهور صورة وأخرى. يضمّ القسم الأول صوراً تجسّد الحياة اليومية العادية في قطاع غزة، كاللقطات التي تناولت أطفالاً يجلسون في الليل تحت إضاءة مصابيح الشوارع أو المطاعم أو البقالات أو محطات المحروقات... وينشغلون بتنفيذ واجباتهم المدرسية، بسبب انقطاع الكهرباء الدائم عن بيوتهم. فيما تظهر صور أخرى كيف يتأقلم الأطفال مع وضعهم البائس خصوصاً في ممارسة متعة اللعب، إذ التقطت الكاميرا صورة لطفل يركل الكرة بقدمه العارية إلا من حذاء مهترئ. ويضمّ القسم الثاني صوراً لفتيان وشباب تؤكد توقهم للانطلاق في رحاب الحياة والتخلّص من حصار الاحتلال، والتقطت هذه الصور بواسطة «زوم» الكاميرا، نظراً إلى بعد هؤلاء الفتيان والشباب مسافة تزيد عن 10 أمتار عن موقع التصوير، وتظهرهم الصور وهم يرقصون «البريك دانس» ويلعبون الجمباز. وجاء الفيلم بمثابة شهادة على المعالم التاريخية والدينية والمباني الرسمية والأسواق التي كانت موجودة في غزة قبل تدميرها في الحرب الأخيرة بقذائف الطيران الإسرائيلي، وبدا وثيقة على وجود العمران الذي غيّبته أطنان القنابل الإسرائيلية إلى الأبد. ومن هذه المباني والمواقع الأثرية جامع العمري الذي قال هيفن ل «الحياة» إنه ليس له مثيل في العالم إلا في دمشق، إضافة إلى الأسواق والأحياء السكنية التي دمّرت تماماً، وشركة إنتاج الكهرباء الوحيدة في القطاع. ولد سامي هيفن في عمّان عام 1987 لأم من أصل سوري وأب إنكليزي، واحترف التصوير الفوتوغرافي، ودرس التصميم الغرافيكي أكاديميا في الجامعة الأهلية في عمّان، وتخرج فيها بدرجة امتياز، ليسافر عام 2005 إلى روما لمواصلة دراسته العليا في التصوير الفوتوغرافي. وهناك، يقول هيفن، إنه أدرك للمرة الأولى حقيقة مأساة الشعب الفلسطيني. ويضيف: «بعد اشتغالي مع فنانين إيطاليين، تواصلت مع مجموعة من فلسطينيي غزة الشباب عام 2013، وذهبت إلى هناك وتلمست جوهر المقاومة الحقيقية لتلك الأرض، وفي تلك الأثناء ولد مشروع مشترك بيني وبينهم، تجاوز حدود السياسة، واتّخذ اسم (الياسمين)». وعن أسباب هذه التسمية يوضح: «زهرة الياسمين متوافرة في كل دول البحر المتوسط، وكانت هذه الزهرة مفضّلة لدى السيدة فاطمة ابنة الرسول محمد (ص)، ومريم العذراء، وهو ما يدلّ على وحدة الديانات وتقاطع الثقافات إنسانياً وتقاربها». ويلفت في سياق متصل إلى أن الأبحاث أكدت أن رائحة الياسمين «تبعد الخوف عن الإنسان، وفي الوقت نفسه توقظ الحب في داخله». ويؤكد هيفن أن حب الحياة والفن والرياضة هو السلاح الحقيقي الذي يمتلكه أهل غزة ويعزز صمودهم ولن يتمكّن أحد من تجريدهم منه، لذا فإن «ياسمين غزة» يمثّل أنشودة للحياة، ويحكي قصة غزة الصامتة التي يرفض الإعلام الإفصاح عنها لتظلّ أسيرة النظام «الديموقراطي!» الوحيد في الشرق الأوسط الذي يقصفها ويسجنها على أرض مساحتها 360 كيلومتراً مربعاً. وعن مصادر خبرته في التصوير الفوتوغرافي يجيب: «عملت مع المصورين العالميين ستيفن كلاين وأوليفرو توسكاني، كما شاركت في بينالي البندقية، وفي «باريس فوتو». وعرضت صوراً في طوكيو في أحد المؤتمرات الهندسية، وقمت بإنتاج مسرحي لإلدا فندي في جنوبإيطاليا، وعملت في برنامج «أكس فاكتور» في إيطاليا لمواسم عدة» . أما فكرة إنشاء دارة الياسمين في عمّان فيقول إنها «جاءت من وحي البيوت المنشأة في جنوبإيطاليا، وساعدتني والدتي (نعمة) وأصدقاء في تحقيقها على أرض الواقع لتكون فضاء مفتوحاً للجميع».