طيلة أعوام طويلة كنّا نسمع كلاماً جميلاً عن شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الكريم الذي أنعم به الله على عباده حتّى يكون شهر التوبة والغفران، شهر الصوم والصلاة والعودة إلى الذات فإلى الله. فهمناه دائماً شهراً لتنقية النفس من أدرانها لمساعدتها على تخطّي كلّ ما يمكن أن يشوّهها من غضب وجشع وطمع وحسد... ولكن منذ أعوامٍ طويلة أيضاً بدأ هذا الحديث يخفّ ويخفت شيئاً فشيئاً لتتحوّل صورة هذا الشهر الفضيل على التلفزة إلى صورة مغايرة تماماً لا تمتّ إلى تلك الأفكار الجميلة بصلة. لا بل تعاكسها في تفاصيل كثيرة! فبعدما كانت البرامج الدينية هي العنوان الرئيس لهذا الشهر الديني بامتياز، باتت البرامج الدينية تُعرَض رفعاً للعتب على بعض المحطات، وبطريقة خجولة وبسيطة، في حين أنّ محطات أخرى وصل بها الأمر حد إلغائها تماماً من برمجتها لحساب برامج المنوّعات والألعاب والمسابقات! في ما مضى كانت برامج المسابقات مادة خفيفة هدفها إضفاء جوّ من المرح على قلوب المشاهدين، فإذا بها تتحوّل في الأعوام الماضية إلى مادة أساسية لا يجوز لها أن تغيب عن شهر رمضان، وكأنّ هذا الشهر بات منوطاً بها وهي صارت مرتبطة به ارتباطاً وثيقاً لا ينفصل! لقد دخلت هذه التأثيرات المغلوطة إلى لا وعي المشاهد حتّى بدأ يستغرب ويتعجّب ويستنكر ويطالب إذا غاب برنامج مسابقات عن شاشةٍ ما، وهذا ما حصل هذه السنة حين انتظر المشاهدون إعلاناً عن برنامج مسابقات على شاشة ال «أل بي سي» فلم يصل. كيف؟ أين؟ لماذا؟ أسئلة طرحها كُثُرٌ وكأنّ حقوقهم هُدِرَت وكأنّ مورد رزقهم أغلِق! في انتظار الفوز المشكلة الأكبر التي تغلغلت مع برامج المسابقات لتضرب بعض معاني شهر رمضان هي اعتبار الفوز مصدر رزق حتّى إنّ البعض بدأ يعتمد عليها لتأمين حاجاته بدل اعتماده على عمله ومجهوده. صار المشاهد يطمع بالفوز بدلاً من السعي لتخطّي الطمع. وبات يغار ممّن فاز قبله ويحسده بدلاً من محاولة الابتعاد من الغيرة والحسد، وزاد جشعه حتّى وصل به الأمر ليغضب ويتفوّه بكلمات بذيئة إذا لم يحالفه الحظ للفوز بالجائزة الكبرى، وفاز فقط بجائزة متوسطة. صار المشاهد يحزن إذا لم يفز بأكثر من 500 دولار أميركي، مع العلم أنّ هذا المبلغ قد يعادل الراتب الشهري الذي يُفتَرَض أن يعيل بعض الموظفين وعائلاتهم طيلة شهر كامل. أمّا المشهد الأسوأ، فهو حين يتحوّل المشاهد إلى متسوّل يحاول التأثير في المقدّم بشتّى الوسائل ليكسب عطفه وبالتالي يكسب جائزته. فتارةً يرجوه بضحكة غير بريئة طالباً منه تسهيل السؤال أو تبسيط الإجابة البسيطة أصلاً. وتارةً أخرى يتوسّل إليه أن يسمح له بالفوز وأن يعطيه فرصة ثانية أو حتّى أن يعطيه الإجابة الصحيحة لأنّه انتظر طويلاً على الخط، ولأنّه في أمسّ الحاجة إلى هذه الجائزة... ولن ينقص بعد إلاّ أن تُخصَّص دعوات مميّزة لمقدّمي برامج المسابقات إن هم سمحوا للمشاهد بالفوز، مثل: «الله يجعل من برنامجك البرنامج الأكثر مشاهدة»، «الله يكثّر الإعلانات خلال وقت برنامجك»، «الله يزيد السبونسر والمنتجين لمثل برنامجك، آمين يا رب»، «إلهي إجعل هذا البرنامج مَخرجاً للمعوزين، واجعل من هذا المقدّم ستراً للمشاهدين، وليّن قلبه ليزيد عدد الرابحين»! تجيير بعض البرامج لا يعرف مقدّمها الإجابة الصحيحة لأنّ الكومبيوتر يكون هو سيّد الموقف، فيمكن حينها أن تجيّر هذه الدعوات إلى أجهزة الكومبيوتر بخاصّةً في المسابقات التي ليس فيها أسئلة، (قد يكون توفيراً لمعدٍّ وربحاً للوقت)، فكل ما يكون على المشترك أن يقوم به هو أن يختار رقماً من اللوحة التي تظهر على الشاشة الصغيرة أمامه، فإذا وجد صورة فلان ربح وإن ساء حظّه واختار صورة علتان خسر! الأمر بهذه البساطة... على المشاهد أن يتّصل ويختار رقماً يخوّله الفوز بآلاف الدولارات. وقيمة الجائزة التي يمكن الفوز بها صارت هي المقياس ليستطيع المشاهد أن يختار البرنامج الذي عليه متابعته، ففي النهاية كل البرامج تطلب منه الأمر نفسه، فيبقى السؤال: ماذا يعطيه كل برنامج في المقابل؟ وعلى أساس الجائزة يمكنه أن يختار وجهته، فيسافر عبر الريموت كونترل التي في يده إلى شاشته التي ستصبح، رغماً عنه، «المفضّلة». برامج المسابقات التي تتسابق إليها الشاشات صارت أولوية بعدما لاحظ المسؤولون في المحطّات كم يمكنها أن تكون مربحة، ليس للمشاهدين طبعاً، بل لها على حساب المشاهدين! وذلك عبر الاختراع الجهنمي الذي يقضي بأن يرسل المشتركون رسائل قصيرة «أس أم أس» إلى أرقام معيّنة تزيد كلفتها أضعاف التكلفة العادية، أو أكثر أحياناً، ما يؤمّن ربحاً هائلاً للمحطات ولشركات الهاتف و «لجميع من اشترك أو أسهم في هذا العمل». وبعد توزيع الحصص على المعنيين كلّهم يمكن أن تذهب حصة بسيطة لتكون بمثابة جائزة «عظيمة» يفرح بها أحد الرابحين. هذه هي صيغة برامج مسابقات اليوم، فحيناً يُطلَب من المشاهدين الاتصال فينتظرون على الخط لوقت طويل، وأحياناً يُطلَب إليهم إرسال أحد الأحرف عبر الرسائل القصيرة، و «كلما زادت الرسائل ازدادت نسبة الاتصال بهم»! باختصار، هذه البرامج قائمة على الغش واللعب على طمع المشاهد في الفوز واستغلال حاجات المساكين الذين يحلمون بحفنة من المال تفكّ ضيقتهم وتفرج كربهم فإذا بحالهم يزداد سوءاً وتعاسة! حبّذا لو يعود هذا الشهر إلى حلّته التي يجب أن يلبسها، وحبّذا لو تكون برامج المسابقات فرصةً للتسلية والمرح، والفوز إذا أمكن، لا واحة توقد نار الغرائز البشرية السيئة فتشعل في قلوب المشاهدين أفكاراً لطالما سعوا إلى طمرها وإسكاتها.