مثلما تابع المصريون الثورة بنسختيها عبر شاشات التلفزيون لحظة بلحظة على الهواء مباشرة، تابعوا كذلك فض اعتصام «رابعة» و«النهضة» بنسختيه. ومثلما كذبت وشوّهت إحدى النسختين إبان الثورة ما كان يجري على الأرض، كذبت وشوّهت إحدى النسختين إبان الاعتصام وما بعده ما يجري على الأرض. أرض مصر وقفت شاهداً على مئات الكاميرات وآلاف التقارير التلفزيونية المصورة والمنقولة على أثير العالم أثناء فض الاعتصامين اللذين قسما الشعب وفتتا وحدة صفه ودفعا دفعاً للاقتتال بحثاً عن الكرسي. كرسي المشاهد كرسي المشاهد أو أريكته التي يتخذها مقراً لإدارة عمليات المشاهدة والمتابعة للحدث المصري هو الكرسي الأقوى والأعتى والأهم. فمن هذا الكرسي تتشكل الاتجاهات، وتتلون الآراء، وتتبلور الأيديولوجيات، وتتضح أو تطمس الحقائق. الجميع كان موجوداً لتصوير لحظات الفض الأولى! كاميرات الفضائيات سنّت أسنانها واستهلت يومها بنشر مراسليها على أعتاب الميدانين وأعلى أسطح العمارات المحيطة (يستثنى في ذلك اعتصام النهضة حيث لا عمارات سكنية في المنطقة). واللافت أن هناك من الكاميرات والمراسلين والعدة والعتاد التلفزيونية والفضائية ما حظي بنعمة السماح بالتعايش والوجود والتواؤم على مدار أسابيع الاعتصام في الداخل، وذلك لتطابق ما تبثه تلك القنوات وأهداف القائمين على أمر الاعتصام ورغباتهم. فهؤلاء أبدعوا في إدارة أدوات وقنوات البث من الداخل، بدءاً من سرقة سيارات البث المملوكة للتلفزيون المصري، ومروراً بانتقاء القنوات «الصديقة» والداعمة للاعتصام من «سي إن إن» و«الجزيرة» و«القدس» وغيرها، وانتهاء ببث ما رأوه مناسباً لخدمة الشرعية والشريعة على أثير الشبكة العنكبوتية. آلة الاعتصام الإعلامية في مواجهة آلات التغطيات الإعلامية خارج حدود «دولة» الاعتصام قدمت صورة تلفزيونية شديدة الالتباس، عميقة الاختلاف، تنذر بالكثير من العواقب غير المحمودة. فبينما كانت كاميرات التلفزيون المصري وغيره من القنوات المصرية الخاصة تغطي مجريات الفض بدءاً بالإنذارات والتحذيرات المذاعة عبر مكبرات الصوت للمعتصمين مطالبة إياهم بالخروج السلمي عبر شوارع محددة مع الالتزام بعدم التعرض لهم طالما هم غير مطلوبين في قضايا أو ما شابه، ومروراً بمرحلة قنابل الغاز، وانتهاء بالفض نفسه على مدى ساعات، كانت القنوات المحبة للاعتصام (سواء لأسباب الانتماءات الإخوانية أم التحالفات الدولية أم الأغراض اللوجستية) تصور المعتصمين «السلميين» وهم متشبثون بالشرعية حاملين صورة أول رئيس مدني منتخب وممسكين بتلابيب الشريعة وهم يحملون المصاحف. الغريب أن تلك القنوات فاتها أن تبث محتويات خيام الاعتصام «السلمي» من أسلحة نارية وأخرى بيضاء وثالثة بدائية من زجاجات «مولتوف». كما فاتها الالتفات إلى محتويات النعوش الخشبية المستخدمة في مسيراتهم «السلمية» للدلالة على إنهم جميعاً «مشروع شهيد» والمتراوحة بين بنادق آلية وطلقات نارية وأخرى خرطوش. الحقيقة حقيقتان وإذا كان «خرطوش» القنوات المصرية بدا صوراً لمرسي ومصاحف للقنوات المحبة للاعتصام، فإن حصيلة فض الاعتصام المعلنة رسمياً «578 قتيلاً و4201 مصاب» تحولت في قناة «الجزيرة» مثلاً إلى 3500 قتيل وعشرة آلاف مصاب. ويبدو إن «الجزيرة» بلغت أقصى درجات المجاملة للجماعة التي اكتفت بأن يكون عدد القتلى حوالى ألفين فقط، أي أقل من قتلى الجزيرة ب1500 قتيل. المجاملات في أعداد القتلى ليست إلا شكلاً من أشكال «المهنية الإعلامية» في التغطية على مدار أيام الاعتصام وما قبله من عام من حكم الجماعة لمصر. التحالفات الغربية الحريصة على إبقاء الجماعات الدينية في حكم مصر لغايات تتعلق برؤى سياسية واستراتيجية للشرق الأوسط الكبير وأدواتها الإقليمية لتحقيق ذلك عبر قنوات غربية وعربية، لا تشكل وحدها عوامل الصور والرسائل المزدوجة الصادرة من فض الاعتصام والتي تجعلها تبدو أمام المشاهد وكأنها لاعتصامين مختلفين! فالجانب الآخر ليس منزهاً عن سوء الأداء المهني وانحيازه وتلوين تغطياته بألوان اتجاهاته. ولكن للأسف إن التوقيت وحساسية الوضع لم يعودا مناسبين للمساءلة والمحاسبة. فكيف تحاسب طرفاً إعلامياً على عدم موضوعيته في وقت ينغمس فيه الطرف الآخر من رأسه إلى أخمص قدميه في غياهب الانحياز والتشويه والفتنة! فتنة الشاشات أشد من فتنة القتل، وهذا ما تثبته الأيام الحالية الحالكة في مصر، وهذا ما تبثه من تغطيات وتقارير، فضلاً عن حوارات وتنظيرات الغالبية العظمى منها مثقل بأيديولوجيات ومصالح. وعلى رغم أن أفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر، إلا أن الجميع بعيد كل البعد عن هذا النوع من الجهاد. فتغطيات ما بعد الفض تصول وتجول في ألوان وأشكال أخرى من الجهاد، منها ما هو في سبيل مرسي، ومنها ما يصب في اتجاه أوباما، ومنها ما يجتهد من أجل حماية مشروعه السلطوي ذي البعد الدولي والذي يحمل عنوان «الخلافة الإسلامية»، ومنها ما يتأرجح بين هذا وذاك أملاً بالفوز بمركز إقليمي أكبر وأوسع على حساب توسيع دائرة العنف والصراع في مصر وتأجيجهما. ولأن التغطية التلفزيونية على الهواء مباشرة لتفاصيل الفض لحظة بلحظة، وما بعد الفض دقيقة بدقيقة، محملة بالمصالح ومثقلة بالغايات وملونة بألوان السياسة وكرسي السلطة ولوبي المصالح وأصابع القوى العظمى وأيادي التنظيم الدولي وأذرع المخططات ما ظهر منها وما خفي، جاءت الصورة مطموسة بالكامل. وهنا تكمن الجدلية الكبرى وتتبلور السخرية السوداء. فكلما تمعنت في متابعة ما يحدث على الأرض، زادت الصورة ضبابية. وكلما انغمست في تحليل المشهد وتفنيده وفهم أبعاده وأغواره، تشتت ذهنك وتضاءلت قدرتك على الفهم. فأنت في اللحظة التي تجد الجماعة وحلفاءها ملائكة أطهاراً أبراراً يقتلون من دون وجه حق، تجدهم إرهابيين دمويين خونة ومرضى نفسيين، وكلا الصورتين معضد بالتغطية الخبرية على الهواء مباشرة. من قال إن عصر الفضاءات المفتوحة هو عصر المعلومة؟ إنه عصر المعلومة المشوّهة باقتدار!