أولئك الذين ولدوا وتربوا ونشأوا على أن الأطفال هم أحباب الله، الذين تتراوح أعمارهم بين يوم و18 سنة، والذين يجب تلقيهم أفضل تعليم ممكن يؤهلهم لتعليم جامعي معقول يؤدي بهم إلى مستقبل مهني واجتماعي جيد، والذين يجب عدم تعريضهم للأخطار أو المهالك... هم قلة في مصر! والدهشة المصحوبة بالصدمة التي ضربت المصريين في شأن أطفال اعتصامات أنصار الرئيس (المعزول) محمد مرسي لم تكن لمشاركتهم، أو لإقامتهم في الشوارع طوال أكثر من شهر، أو لهتافهم المازج بين السياسة والدين والسب والشتم، ولكن لأنهم حملوا وارتدوا أكفانهم تنفيذاً لمخرجي العرض الاعتصامي في ميدان رابعة العدوية! الكفن الذي يعني الموت والرحيل عن الدنيا، والذي تقشعر له الأبدان، أزعج المصريين حين رأوه محمولاً وملبوساً من أطفال. لكن النخبة ترفض أن تعترف بالأمر، أو ربما تجد نفسها غارقة حتى أذنيها في الأحداث الراهنة ولا تجد الوقت اللازم لتحليل مشهد أطفال الاعتصام تحليلاً موضوعياً حقوقياً بعيداً من اللبس السياسي. ولم يكن بيان منظمة «يونيسيف» العجيب الغريب الذي صدر أخيراً سوى جزء من هذا اللبس! ممثل المنظمة في مصر فيليب دوامال قال في بيان إن «يونيسيف تعبر عن قلق بالغ من التقارير التي تتحدث عن أطفال قتلوا أو أصيبوا خلال المواجهات العنيفة في مصر، وان الصور التي تدعو إلى الانزعاج والتي التقطت للأطفال أثناء التظاهرات تشير إلى أنه في بعض المواقف يجري استخدام الأطفال عن عمد، وتعريضهم لخطر مشاهدة العنف، أو أن يصبحوا ضحايا له». وحذر البيان من أن «مثل هذه الأفعال لها آثار جسمانية ونفسية مدمرة طويلة الأمد على الأطفال»، مناشداً «المصريين والقوى السياسية عدم استغلال الأطفال في تحقيق أغراض سياسية وحمايتهم من أي أضرار محتملة». لكن الأضرار المحتملة قائمة منذ سنوات طويلة، بل خرجت من طور الاحتمال إلى اليقين! عمالة الأطفال التي تضرب أرجاء مصر ارتقت من كونها ظاهرة تجري محاربتها، على الأقل على الورق، إلى أمر واقع لا يزعج الغالبية. تراهم في كل مكان! لم يعد نموذج «الواد بلية» الصبي العامل في ورشة إصلاح السيارات وحيداً، بل معه مئات النماذج المتكررة التي تستوعب ملايين الأطفال. عمال نظافة، توصيل طلبات إلى المنازل، دباغة جلود، صباغة ملابس، أعمال بناء... والقائمة طويلة جداً. وعلى رغم عدم وجود إحصاءات يعتمد عليها في هذا الشأن، فإن منظمة العمل الدولية قدرت عدد الأطفال العاملين في مصر بنحو ثمانية ملايين طفل، يعمل غالبيتهم في مجال الزراعة، وهو رقم مرتفع للغاية، بالإضافة إلى كون عمل الطفل في حد ذاته مخالفاً للقوانين المحلية والدولية ومواثيق حقوق الإنسان. لكنها تبقى أرقاماً «عادية» لا تؤرق الكثيرين في مصر، خصوصاً أن الفقر يدفع الأسر إلى تشغيل أبنائها للمساهمة في أعباء المعيشة. أعباء المعيشة الثقيلة تدفع أسراً أخرى إلى غض الطرف عن هروب الأبناء من المنزل إلى أحضان الشارع، والتحول إما إلى طفل شارع كل الوقت أو بعض الوقت. فحين تنجب الأم ثمانية أطفال فيما هي وزوجها غارقان في الفقر والجهل، من الطبيعي أن يهرب بعض أولادهما إلى حضن الشارع بديلاً من البيت. ولأن المصريين اعتادوا وجود الأطفال في الشوارع، إلى أن أصبح هناك جيل ثان منهم ولد ويعيش في الشارع، لم يعد مشهد الأطفال النائمين أسفل الكوبري (الجسر) في عز الشتاء أو في عرض الرصيف في أيام الصيف الساخنة تستوقفهم كثيراً. اعتادوها كما اعتادوا الكثير من القبح في حياتهم، إلى أن تحول جزءاً لا يدعو إلى الشجب في حياتهم. أعدادهم تتراوح بين 600 و800 ألف طفل، كما تؤكد إحصاءات «يونيسيف»، وتزيد لتتجاوز المليون ونصف المليون، وأحياناً المليونين، كما يؤكد بعض منظمات المجتمع المدني، ومن ثم اعتاد الجميع رؤيتهم والعيش جنباً إلى جنب معهم. وحين ظهر أولئك الأطفال في شكل واضح إبان «ثورة 25 يناير» (كانون الثاني) 2011، هلل البعض وطبل وزمر لهم على أساس أنهم مشاركون في الثورة وفعالياتها. وسواء جاءت مشاركتهم بناء على قناعة شخصية أم اضطراراً، باعتبار المشاركة مصدراً للرزق في الشارع، سيظل ما حدث هو مشاركة لأطفال دون السن القانونية في فعاليات ثورية قد تعرضهم (وعرضت بعضهم فعلاً) للخطر والتهلكة. وفي فعاليات ما بعد الثورة، والتي شاب بعضها أعمال عنف، كان كثيرون – من عائلات الإخوان وغير الإخوان - يصطحبون أطفالهم معهم، وكانت الكاميرات تلتقط لهم الصور التي عرفت طريقها إلى صفحات الجرائد ووكالات الأنباء تحت عناوين مختلفة لا تحمل سوى رسائل إيجابية! غير أن فجاجة طوابير الأطفال الذين يجوبون المسيرات، تارة في مواقع الدروع البشرية، وتارة وهم يحملون أكفانهم أو يرتدونها فيما يجري تلقينهم ليقولوا أمام كاميرات التلفزيون انهم جاؤوا إلى الاعتصام كي يموتوا شهداء، وأن غاية المنى والأمل هو أن يقتلوا «السيسي» أصابت المصريين، بمن فيهم الذين اعتادوا عمالة الأطفال، وأطفال الشوارع بصدمة بالغة. وتقدم «الائتلاف المصري لحقوق الطفل» (منظمة حقوقية) ببلاغ إلى النائب العام يتهم فيه قيادات اعتصام «رابعة العدوية» وعلى رأسهم المرشد العام للجماعة باستغلال الأطفال والإتجار بهم. واعتبر الائتلاف المسيرات التي يرتدي فيها الأطفال الأكفان شكلاً من أشكال الاتجار بالبشر، بالإضافة إلى أن مثل ذلك التصرف يعد أطفالاً معادين للوطن غير قادرين على التعامل مع كل من يختلف معهم إلا بالموت. الغريب أن هذه المشاهد التي تقشعر لها الأبدان يسوّقها أنصار الجماعة باعتبارها نموذجاً يحتذى في تربية الطفل على الوعي المبكر والإدراك منذ نعومة أظفاره. «الله أكبر! استمع لهذا الطفل الذي يؤكد أنه مشروع شهيد من أجل الشرعية. ما شاء الله»! «شاهدوا ما يقوله هذا الطفل البطل وهو يحمل كفنه. إنه يتمنى الشهادة في سبيل الإسلام». «ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. طفل في عمر الزهور لا يحلم بملابس العيد ولا لعب الأطفال، بل يحلم بأن يلقى وجه ربه في رمضان أو العيد لنصرة دينه»! وسواء كان أولئك الأطفال أبناء عائلات الإخوان وحلفائهم، أم كانوا «مقترضين» من دور أيتام إسلامية – كما يشاع، تبقى الحقيقة المرة، وهي أن هناك فئة من المصريين تعتبر طلب الشهادة من الطفل شرفاً، وارتداءه الكفن روعة، وتلقينه أن غاية مناه وأمله هو قتل من يختلف معه بطولة! لكنها ليست الحقيقة الوحيدة. فعلى رغم الصدمة التي أحدثها أطفال «رابعة» لدى المصريين، فإنها لا تقلل من حجم مشكلة أخرى يجب على الجميع مواجهتها، وهي معنى الطفولة وقيمتها في المجتمع المصري بين عمالة الأطفال وأطفال الشوارع وزواج القاصرات!