أن تصطحب ابنك في فسحة نهارية لقضاء بعض الوقت في أحضان الطبيعة... أمر مطلوب. وأن تأخذه في جولة ليلية يستمتع خلالها برؤية النهر ويأكل الذرة المشوية والتين الشوكي... أمر محمود. وأن تؤمن نزوله معك في تظاهرة سلمية من أجل دعم النظام السياسي القائم أو الاحتجاج عليه، أمر يقبل التأييد لأنك تزرع فيه روح المواطنة وحسّ المشاركة منذ الصغر، على رغم خطورة ذلك، لما قد يلحق بالتظاهرة من أعمال عنف هنا أو ظروف ازدحام أو تدافع أو اختناقات هناك. لكن أن تصنع له كفناً وتلبسه أحلى ثيابه وتعطيه «كفنه» الجديد يحمله بين ذراعيه الصغيرتين ليمشي حاملاً إياه ومشاعر الزهو وملامح الفخر واضحة على وجهه، بينما تمشي أنت وراءه وابتسامة الفرحة تملأ وجهك وأنت ترى الدهشة في عيون المارة، فهذا أمر يحتاج إلى وقفة وربما علاج نفسي. وإذا كانت مشاركة الأطفال في الحياة السياسية المصرية التي وصلت درجة الفوران وتعدت حالة الالتباس لتدخل «منحدر الصعود» الغامض الذي سبق وأشار إليه الرئيس المعزول محمد مرسي، باتت أمراً واقعاً، شاء الأهل أو أبوا، وباختيار الصغار أو رغماً عنهم، فإن الإمعان في إقحامهم وتعريضهم للخطر من أجل دعم مواقف أيديولوجية أو إثبات ميول دينية أو جذب كاميرات تلفزيونية وأخرى فوتوغرافية أمر خطير. العدسة التي التقطت صورة مريعة لسيدة ومعها طفلاها في طريقهم إلى اعتصام أنصار محمد مرسي في ميدان «رابعة العدوية» (شرق القاهرة) يجري تداولها حالياً على أنها تؤرخ لاستغلال الأطفال وتعريضهم للخطر وتشويه تركيبتهم النفسية والعصبية وإقحامهم في اقتتالات، إن لم تكن زاهقة للأرواح فهي مدمرة للأطفال نفسياً وعصبياً. الصورة يتداولها الإعلام الداعم والمؤيد للحكم الديني وتيارات الإسلام السياسي في مصر على سبيل الإعزاز والتبجيل والتقدير ل «الأم الرائعة» التي وضعت طفليها في المقدمة وسارت وراءهما تحمل كرسياً مطوياً تشد من أزرهما، بعدما سلمت كل منهما كفنه يحمله بين يديه لدعم الشرعية والشريعة. في المقابل، اعتبر الإعلام غير الداعم وغير المؤيد لمرسي الصورة عاراً على جبين كل أم تزج بصغارها في معركة كهذه. البعض تساءل عن الفكرة من حمل الأكفان من جانب الصغار، والبعض الآخر سخر من سعادة الأم بأن صغيريها مشروعا شهيدين، والبعض الثالث توقع أن تكون الأم واقعة تحت تأثير غسل الأدمغة على أيدي خبراء في التطرف الديني، لكن أحداً لم يتكلم عن حقوق الصغار في التمتع بطفولة آمنة، أو حتى طفولة تحاول تجنيبهم أكبر كمية ممكنة من الخطورة، وليس وضعهم في فوهة مدفع الخطر. لكن هناك من تنبه إلى قبح ما تحمله الصورة من معانٍ، تبدأ بعدم وعي الأم قيمة الطفولة وزجّها بصغارها لخدمة مبادئ سياسية أو دينية تعتنقها من دون مراعاة لحياة الصغار، وتمر بالرسالة الدموية التي ترسلها إلى كل من حولها، وهي الرسائل المخضبة بالدماء أو الموت الذي يرمز به الكفن الذي يحمله الصغير فرحاً، وتنتهي بما تخلفه مثل تلك التجربة في نفوس الصغار. «الجمعية المصرية لمساعدة الأحداث وحقوق الإنسان» دانت ظاهرة اصطحاب معتصمي «رابعة العدوية» للأطفال في ما اعتبرته «ظروفاً غير آدمية» للمعيشة. ورأت الجمعية أن معيشة الأطفال في الخيام في العراء وفي تكدسات بشرية كبيرة في مكان ضيق وعدم تيسر وسائل النظافة الشخصية وغيرها مخالفة صريحة للاتفاق الدولي لحقوق الطفل، إذ تجري المتاجرة بهم واستغلالهم، فضلاً عن شبهة استخدامهم دروعاً بشرية. كما يعد استغلال الأطفال بهذه الطريقة مخالفة لقوانين الطفل المصري، بالإضافة إلى قانون مكافحة الإتجار بالبشر. دور توعوي استباقي للأحداث الجارية رحاها في مصر حالياً لعبه المجلس القومي للطفولة والأمومة حين أصدر تحذيراً من استغلال الأطفال في التظاهرات والاعتصامات. وأشار المجلس إلى أن قانون الطفل المصري يجرم تعريض حياة الطفل وأمنه للخطر، ويحظر كل مساس بحق الطفل في الحماية من الاستغلال. أما العقوبة فهي السجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنوات، وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه مصري. وإذا كان الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، فإنه في هذه القضية يفسد قضية الود بأكملها. لقاءات سريعة مع أطفال «رابعة» تبثها شبكات عنكبوتية إسلامية. يسأل المراسل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والثانية عشرة: «لماذا جئتم (إلى هنا)؟»، وتأتي الإجابة مستنسخة: «جئنا لننصر الشريعة وندافع عن الشريعة وننقذ الإسلام». وحين يتلعثم الصغير محاولاً تذكر اسم الرئيس الذي جاء لنصرته، يبادر من حوله بإنقاذ الموقف، فيهتفون «مرسي مورسيي هو هو». ثم يبادر المراسل إلى طرح السؤال التالي: «ألا تخشون حدوث ضرب وعنف؟»، ومجدداً تأتي الإجابة النموذجية المتفق عليها، ولكنها هذه المرة بنسخ مختلفة: «عادي، هاموت شهيد» أو «أنا مشروع شهيد» أو «هاستشهد، عادي يعني» و «وإيه يعني لما أكون شهيد؟». وينصرف المراسل سعيداً بالتقرير الجميل، فيما ينصرف الصغار إلى داخل الخيم سعداء بظهورهم على شاشات الكومبيوتر والآي باد، وينصرف الأهل إلى الهتاف: «إسلامية... إسلامية». في المقابل، ينصرف العالم إلى البحث والتدقيق في حقيقة ما حدث في مصر، وهل هو انقلاب عسكري أم شعبي، فيما ينصرف معارضو مرسي إلى حياتهم المعتادة. وتستمر الأم في المضي قدماً نحو ساحة الاعتصام سعيدة بطفليها وهما يحملان حلتيهما الجديدتين معهما: كفنيهما! (ا ف ب) (ا ب)