ليست المرة الأولى التي يتحوّل فيها حال مكان مهمل في عمّان إلى حال نختلف بتوظيفه جمالياً. ولكن، ما اشتُغل عليه في ساحة مديرية المسرح والفنون في جبل اللويبدة (أحد جبال عمّان السبعة القديمة) يمنح التجربة نكهة مختلفة، إذ كانت الثمار أطول جدارية إسمنتية في منطقة الشرق الأوسط. تعود الفكرة إلى المخرج المسرحي محمد الضمور، بتحويل جدران المديرية التي يديرها والتابعة لوزارة الثقافة والتي لوّثتها بيئة المدينة، وبعضها آيل للسقوط بفعل تقادم الزمن، إلى جدارية فنية تضمّنت لوحاتٍ وكُتَلاً ورسوماً شكّلت علامات بصرية طرح المعنى فيها فسيفساء لحضارات نهضت في بلاد الشام، وأخرى تعاقبت على المنطقة عبر التاريخ. نفّذ النحات خليل أبو حلتم الفكرة. وبعد انتهائه من إنشاء الجدارية الإسمنتية، بدا واضحاً أنه سجل رقماً قياسياً على مستوى الشرق الأوسط من حيث طول الجدارية الذي يبلغ 260 متراً. وكانت الجداريةُ الأطول قبل هذه قد شُيّدت في مدينة غزة بطول 70 متراً. تتضمن مساحات الجدارية، عبر خطوطها ونقوشها الإسمنتية، مفردات ميثولوجية إغريقية في أبهى تجلياتها، مثل زوس وفينوس وأثينا، وثمة مفردات أخرى من المجتمع الزراعي القديم في بلاد الشام كالجَرّة والمزهرية الفخاريتين، وصينية القش، وطاحونة القمح، و«الشاعوب»، والمنجل، ومصباح «الكاز» المعروف حالياً ب «لمبة نمرة أربعة». كما يتجلى المجتمع الزراعي لجهة معمار بيوته، حيث الأبواب المرتفعة التي تدخل الجسور القوسية كعنصر أساس في إنشائها، والمعرَّقة بالخطوط ونقوش السنابل والنقوش النحتية. ولم ينسَ مُنشئ الجدارية البيئةَ الثقافية لهذا المجتمع، من خلال تزيين الجدران بآلات موسيقية مثل العود، وآلات الإيقاع. وتنتقل عين الرائي إلى مساحات أخرى تتناول مجتمع المدن الساحلية، بأبوابها العالية المجاورة للبحر. وأوحت بهذا المعنى نقوش السفن والأمواج والأسماك والحيوانات البحرية. البدوي والصحراوي أما التراث البدوي المنبثق من فضاءات الصحراء، فكان له نصيب من الحضور في مشهد الجدارية. وذلك عبر مفردات البساط، والمهباج، والحصان، والشبّابة، والربابة، وقوافل الإبل تتتابع وسط قساوة الطبيعة الصحراوية، والشخوص التي لفح محيّاها لهيب الصحراء، وبيوت «الشَّعر»، واللون الصحراوي الذي يحيل إلى الرمال الذهبية وإن بدا متّشحاً بالقتامة. في الساحة الكبيرة للمديرية، تطل على المُشاهد، أيقونة المسرح المتمثلة في الوجهَين المبتسم والحزين وفق نمطَين: القناع الذي يتكرر على كتيبات المهرجانات المسرحية وملصقاتها، والوجوه البشرية التي تجسد شخوصاً واقعية. تبدأ الجدارية مع اجتياز الزائر بوابةَ ساحة المديرية باتجاه اليسار، حيث تظهر أمامه أقواس من العمارة الإسلامية، تؤطر مجسماً لمدينة البتراء ولقلعة الكرك الأثرية، إلى جانب الأعمدة الرومانية الدائرية التي تَبرز من بينها معابد النار المشتعلة. ثم يتوجه بصرُه مباشرة الى نصب تجريدي تخلو جدرانه من أيّ نقوش أو خطوط، يتكون من كتلتين متّحدَتين لامرأة ورجل. تتوالى في الجدارية كتل بصرية بانورامية. بيوت العنكبوت الدائرية تجاورها سنابل القمح، ووردة خماسية بأوراقها، ووعاء فخاري، وأسماك، وخطوط في شكل مربعات متكررة في شكل هندسي، وتنتهي الجدارية بنقشٍ لحمامة ترقد فوق بيوضها بسلام. وقال مدير مديرية الفنون والمسرح محمد الضمور ل «الحياة»: «تشتمل الجدارية على بانوراما الأردن: التاريخ والتراث والحضارة، وتركز على مشاهد تعبّر عن التاريخَين الحديث والقديم من حيث العادات والتقاليد، كما تتناول بعض الشخصيات الأسطورية من المسرح التراجيدي اليوناني، مثل آلهة الحب». وأوضح النحات أبو حلتم أن الجدارية التي تُعتبر «نصاً مفتوحاً للأجيال المقبلة، لتكتب حكاياتها عليه» استغرق العمل عليها 16 أسبوعاً. وقال إن المواد المستخدمة أهمها الإسمنت باللونين الذهبي والنحاسي، بينما أنشئ سطحها باستخدام نوع من الإسمنت يجفّ سريعاً، «ليتم النحت عليه وفق متطلبات اللوحة أو المشهد». أما الصعاب التي واجهت عمله، فأبرزها الكلفة، إذ بلغت 22 ألف دينار، قدمت وزارة الثقافة 10 آلاف دينار فقط منها لإتمام المشروع.