الى استراليا، حيث انتهى المطاف بمن تبقى من إخوته وأقاربه، يهاجر المسيحي الأربعيني رافائيل ايشوع خريف هذا العام. يدرك رافائيل أن صلته بموطن أجداده انتهت تماماً، منذ عثر نهاية العام الماضي على جثتي والديه، ممزقتين. قبل هذا بأربعة أشهر فقط، كان رافائيل عثر على جثة أخيه ادمون ملقاة في احدى مزابل حي الدورة جنوبي العاصمة. بخلاف والدي رافائيل وأخويه، نجح المسيحي الشاب سعد توما بالخلاص من خاطفيه شتاء عام 2008، وهو الآن يستعد مع باقي افراد الأسرة لمغادرة كردستان العراق الآمنة نسبياً، باتجاه تركيا، تمهيداً لهجرة دائمة الى احدى الدول الاوروبية. يتخوف رافائيل وسعد ومثلهما آلاف المسيحيين، من اتساع دائرة العنف في العراق الى الحد الذي لا يستثني بقعة من اراضيه، خصوصاً بعد أن استعاد تنظيم القاعدة، سطوته على الاحداث وقتل اكثر من 2600 عراقي خلال الاشهر الثلاثة الماضية وجرح نحو ستة آلاف آخرين، معظمهم من الشباب الذين قتلوا في تفجيرات طاولت ملاعب كرة قدم للهواة ومقاهي شبابية وأسواقاً شعبية في كل مدن العراق. كما تمكن تنظيم القاعدة في 21 تموز (يوليو) الماضي من إطلاق سراح اكثر من 600 من أشرس قياداته الميدانية ومقاتليه بعد تنفيذ عملية نوعية لاقتحام سجني (التاجي) و (ابو غريب)، باستخدام نحو 100 قذيفة هاون و12 انتحارياً وتسع سيارات مفخخة. يتذكر سعد حتى الآن، حكايته مع مسلحي تنظيم القاعدة منذ اختطفوه في نقطة تفتيش وهمية شمالي بغداد. وانتهاء بإطلاق سراحه بأعجوبة باتفاق بين اخيه الكبير أدور وزعيم عشيرة نافذ، سلّم المسلحين 80 ألف دولار واحتفظ لنفسه ب 30 ألف دولار. لكن المال الذي انقذ توما، لم يشفع لمواطنه فادي سليمان الذي دفعت والدته لخاطفيه 100 الف دولار مقابل اطلاق سراحه حياً، ثم عادت ودفعت 20 ألف دولار لمجرد تسلم جثته، ثم اكتفت في ما بعد بدفن الجثة التي سلمها لها مخادعون على انها جثة فادي في مقبرة العائلة في بغداد، ثم هاجرت مع ابنتها الى السويد. موسم الهجرة الى الغرب رحلة رافائيل وسعد وأم فادي ومعهم آلاف المسيحيين الذين هاجروا، او هم في طريقهم الى الهجرة الدائمة باتجاه الغرب، تنذر بأن البلاد التي استوطنها أتباع الديانة المسيحية منذ القرن الاول للميلاد، توشك ان تفقدهم الى الأبد، بعد ان عجزت عن حمايتهم من الموت والتهجير على ايدي مسلحي القاعدة ومجاميع مسلحة اخرى خلال الاعوام التي أعقبت الغزو الاميركي للعراق عام 2003. موجة القتل التي تسببت بمقتل نحو الف مسيحي نهاية عام 2012، كانت الأعنف منذ مجازر الأشوريين عام 1933 التي نفذتها قوات عراقية وقتل فيها نحو 600 مسيحي أشوري، بمعونة عشائر عربية وكردية سلبت قراهم في ما بعد، ومنذ مذبحة قرية صوريا التي نفذتها قوات نظام البعث عام 1969 وراح ضحيتها اكثر من 90 كلدانياً، عشرات منهم أُحرقوا أحياء في كهف لجأوا اليه هرباً من الاعدامات. بالتوازي مع الاستهدافات المتكررة، هاجر نحو 700 الف مسيحي الى خارج العراق، من مجموع مليون و400 الف عددهم قبل عام 2003، وفق تقارير دولية معتمدة على مجمعات كنسية، وأبرشيات مسيحية، ومنظمات مدنية. ويعتقد رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي الكلداني ابلحد افرام، أن عدد المسيحيين المتبقين في العراق حالياً لم يعد يتجاوز ال400 الف مسيحي. المرتبة الثالثة يتنبأ القس أميل ايشو، بأن اتباع الديانة المسيحية سيتراجعون خلال وقت قصير من المرتبة الثانية الى المرتبة الثالثة في تسلسل الديانات العراقية، إن لم يكونوا قد تراجعوا اصلاً... مؤكداً أن نصف المسيحيين الذين غادروا خلال السنوات الماضية سيسحبون معهم، لا محالة، النصف المتبقي الذي يعاني وطأة اليأس والخوف من الآتي. يشاطره الرأي زميله القس يوحنا البازي، فهو يعتقد أن العراق سيصبح خالياً من مواطنيه المسيحيين خلال السنوات العشر المقبلة في حال بقيت الاوضاع على حالها من عنف وخلافات وطائفية وعرقية طبعت العقد الماضي بأسره... في حين يعتقد مطران ابرشية اربيل والمدبر البطريركي لأبرشية زاخو ونوهدرا بشار متي وردة، بأن المسيحيين سيتحولون في احسن الاحوال الى مكون ضئيل غير قادر على التأثير في مجريات الاحداث في البلاد، ولا حتى حماية نفسه. يتفق مع القسين ايشو والبازي والمطران وردة، 84 في المئة من المسيحيين الذين استطلع كاتب التحقيق آراءهم في استبيان نشر على موقع عنكاوا المسيحي، يعتقدون أن خلو العراق من المسيحيين سيكون حتمياً، أو قابلاً للتحقيق، خلال عشر سنوات فقط. ولا يكاد رأي هؤلاء، يختلف كثيراً عما يراه عشرات المسيحيين الذين التقاهم كاتب التحقيق في بغداد ومدن اقليم كردستان، ومعهم ايضاً، ناشطون مدنيون، وباحثون اجتماعيون، وقيادات دينية وسياسية مسيحية. هؤلاء يعتقدون على نطاق واسع أن ثالوثاً مشؤوماً يلف حياة المسيحيين ويدفعهم للهجرة خارج العراق، أول اضلاعه، العنف المتصاعد واستمرار الصراعات الطائفية والعرقية في البلاد، فيما يتمثل الضلع الثاني بالنزعة الدينية المتطرفة التي تزايدت حدتها في العراق والعالمين العربي والاسلامي خلال السنوات الاخيرة. يضاف الى هذا، على ما يعتقد الناشط المسيحي مهند جرجس ومعه قساوسة وسياسيون مسيحيون ابرزهم الوزيرة السابقة باسكال وردة، سيكون اليأس سبباً رئيساً في هجرة المسيحيين من كردستان التي عرفت طوال السنوات الماضية بأنها آخر معقل يمكن ان يلجأ اليه المسيحيون، ضماناً للبقاء داخل حدود الوطن. ففي كردستان، كما يقول جرجيس، بات من الصعب ان تتغافل عن صعوبة العيش في مجتمع محافظ يحاسبك على كل حركة، ويحول حاجز اللغة دون اندماجك فيه، وتتصاعد فيه حدة الخطاب الديني الموجه ضدك الى حد اعتبار الاحتفال بأعياد الميلاد كفراً يتوجب القصاص من فاعليه. يذكر جرجس أن تجنيد الشباب الكردستاني المتشدد للحرب في سورية مع جبهة النصرة، والذي بات مشكلة مقلقة تلوح في افق كردستان، يشي بأن التشدد الديني الذي تسيطر عليه حكومة كردستان الآن، قد ينفجر في وجه المسيحيين في أية لحظة. القتل على الهوية كان استهداف المسيحيين في بداية الامر، كما يقول القس واثق بطرس، يتلخص باختطاف المسيحيين وقتلهم او قطع رؤوسهم، لكن مع صيف العام 2004 الذي شهد أعلى معدل لقتل المسيحيين (نحو 210 قتلى)، تحول الى استهدافات كبرى شملت تفجير كنائس وأديرة بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة واقتحام منازل وقتل عائلات بأكملها لترويع المسيحيين وإجبارهم على الرحيل. في مدينة الموصل ثاني اكبر المدن التي يقطنها مسيحيو العراق، تفنن المسلحون في تنفيذ عمليات قتل مروعة استهدفت المسيحيين بكل فئاتهم، اطباء، وأساتذة، ومتقاعدين، وتجار وقساوسة، بل حتى بائعي خضار وسائقي سيارات أجرة. ولم يسلم الرهبان والقساوسة من «عدالة» الجماعات المتشددة في توزيع القتل على المسيحيين بالتساوي، فقد اقتحم مسلحون منزل القس مازن ايشوع متوكة وقتلوا والده وأخويه حين لم يجدوه، ثم عادوا وقتلوا الكاهن رغيد عزيز ومعه ثلاثة شمامسة حين خرجوا من قداس الاحد. توالت في ما بعد سلسلة القتل الكهنوتية، وكانت من أبشعها حادثة مقتل راعي كنيسة مار افرام، القس بولص سركون بهنام. ففي خريف 2006، قطع مسلحو تنظيم القاعدة رأس القس ثم وضعوا جسده المقطع الى اربعة اقسام في وعاء كبير أمام باب الكنيسة، ثم تكرر الامر في آذار (مارس) 2008 باختطاف رئيس اساقفة ابرشية الموصل المطران بولس فرج رحو، وهو اكبر مرجع ديني للكنيسة الكاثوليكية في نينوى، ومعه ثلاثة من مساعديه، وعثر على جثثهم لاحقاً وعليها آثار التعذيب. استهداف الكنائس قبل وأثناء وبعد عمليات قتل رجال الدين المسيحيين، كانت الكنائس والاديرة هدفاً رئيساً لتنظيم القاعدة، بهدف ارغام المسيحيين على مغادرة المدن التي يسكنونها باعتبارهم «ديانة غير مرحب بها» بين صفوف المسلمين كما يقول الناشط جرجيس. فخلال الاعوام 2003 – 2011، وثقت الدوائر الكنسية والمنظمات المسيحية أكثر من 60 كنيسة وديراً مسيحياً تعرضت للتفجير والاقتحام في العراق، عدد كبير منها استهدف خلال حملات تفجير كبرى تبناها تنظيم القاعدة واستخدم فيها سيارات مفخخة وعبوات ناسفة قتل فيها عشرات المسيحيين. مطلع آب (اغسطس) عام 2004، تعرضت سبع كنائس في بغداد العاصمة ومدينة الموصل للتفجير بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة اودت بحياة 18 مسيحياً وجرحت العشرات منهم حين كانوا يؤدون قداس الاحد. وعرف ذلك اليوم حتى الآن ب «الاحد الدامي»، والذي توالت من بعده عمليات استهداف الكنائس المسيحية طوال السنوات اللاحقة. التهجير المباشر خرجت عائلة الشماس يوسف بنيامين مع اكثر من 1380 عائلة مسيحية من مدينة الموصل باتجاه كردستان، شتاء عام 2008، في حينه، يتذكر بنيامين، كانت «صولة تنظيم القاعدة» الجديدة قد بدأت بهدف تهجير اكبر عدد ممكن من المسيحيين. قتل في هذه الحملة 12 مسيحياً وفجرت ثلاث كنائس وبضعة بيوت. ثم انتهت الحملة ببيان علني بثته مكبرات الصوت في بعض الجوامع، يمنح المسيحيين 48 ساعة فقط لمغادرة المدينة. قبل ان تنتهي المهلة، كانت العوائل المسيحية ال 1380، من ضمنها عائلة الشماس بنيامين، قد خرجت من المدينة، بعضها «اكتفى بالرحيل بملابس النوم فقط» كما يتذكر بنيامين. في بغداد العاصمة، ابتدع تنظيم القاعدة اسلوباً بشعاً جداً لإرغام المسيحيين على المغادرة، ففي الثلاثين من تشرين الاول 2010، اقتحم انتحاريون ينتمون الى تنظيم القاعدة باحة كنيسة سيدة النجاة وسط بغداد، واحتجزوا أكثر من 100 مسيحي كانوا يؤدون قداس الاحد، مطالبين بإطلاق سراح ما قالوا انهن «مسلمات مصريات اختطفن وأجبرن على دخول المسيحية من قبل الكنيسة القبطية في مصر». ولاحقاً، فجر المسلحون احزمتهم الناسفة التي طوقوا بها اجسادهم وأجساد عدد من الرهائن، من ضمنهم اطفال، لتنتهي المجزرة ب58 قتيلاً وعشرات الجرحى. عقب المجزرة التي نالت صدى اعلامياً عربياً وعالمياً، غادرت اكثر من 1500 عائلة مسيحية بغداد باتجاه سهل نينوى ومدن اقليم كردستان، هذا غير العائلات التي هاجرت مباشرة الى خارج العراق وقدرت بنحو 30 عائلة في اليوم. التطرف ابرز ما عاناه المسيحيون، قبل وأثناء موجة العنف التي طاولتهم بعد عام 2003، كما يعتقد الناشط المسيحي بنيامين اسحاق، ان المتشددين بدأوا عزلهم بالتدريج. فيما يرى الخوري قرياقوس حنا متوكة راعي كنيسة مريم العذراء في برطلة، أن التطرف الديني هو واحد من ابرز اسباب هجرة المسيحيين الى خارج العراق. يتفق معه في هذا الطرح، المدير السابق لمنظمة حمورابي لحقوق الانسان، وليم وردة، فهو يعتقد أن تنامي التطرف الديني بالنسبة الى الأديان كقضية عالمية معاصرة، تسبب بتنامي موجات العنف ضد المسيحيين في العراق. فالتطرف كما يرى وردة، «يقود مع مرور الوقت، الى التصادم بين الديانات نفسها». يحمل وردة، الدول الغربية الكبرى جزءاً كبيراً مما يتعرض له المسيحيون في العراق، فبمجرد ان ظهر الفيلم المسيء الى النبي محمد وما سبقه من رسوم مسيئة، تعرض العشرات من المسيحيين الى اعتداءات جسدية ولفظية، وارتفعت حدة خطاب الكراهية ضدهم. خاطب بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم مار لويس روفائيل الأول ساكو، مسلمي العراق خلال احتفالهم بالهجرة النبوية العام الماضي، بقوله: «ليكن قلبكم رحبا في حال ارتكاب الغرب حماقات، ولا تدمجونا بها». البطريرك ساكو أبلغ كاتب التحقيق، أن مستقبل المسيحيين في العراق بات منذ سنوات «غامضاً ومخيفاً جداً». فالاوضاع المشتعلة في العراق وسورية ولبنان ومصر، تربك اوضاع المسيحيين مع تنامي المغالاة لدى نسبة عالية من مواطني البلدان الاسلامية، وهذا الامر بالذات، كما يقول ساكو «هو الذي يقلق المسيحيين ويدفعهم الى التفكير بالهجرة الى الغرب». كردستان تفقد موقعها كمعقل أخير لمسيحيي العراق راهن كثيرون، بمن فيهم قادة مسيحيون وناشطون وقساوسة، وحتى قادة اكراد وعرب، على أن كردستان العراق يمكن ان تكون حاضنة موقتة للمسيحيين توفر لهم الأمان ريثما تستقر الاوضاع السياسية والامنية في العراق ويعودون مجدداً الى مناطقهم الاصلية. التقارير كانت تقدر عدد العائلات المسيحية التي نزحت الى مدن كردستان وسهل نينوى بأكثر من 65 الف عائلة. الجميع كسب الرهان، بمن فيهم الناشط المدني سعدي قرياقوس، فقد كانت كردستان فعلاً حاضنة موقتة كما يعتقد، ولكن «باعتبارها المحطة الاخيرة قبل الهجرة النهائية الى خارج العراق». لا يواجه المسيحي القاطن في كردستان عادة، مخاطر الاختطاف او القتل او حتى التعرض بشكل عابر للسيارات المفخخة والعبوات الناسفة. أقصى ما يمكن ان يهدد حياته هو حوادث السير كما يقول الناشط قرياقوس. مع هذا، لا تتوقف رحلات الهجرة من كردستان الى الخارج، وقد تتسارع او تتباطأ قليلاً «لكنها أبداً لا تتوقف». العنف ليس دائماً سبباً للهجرة يعني هذا عملياً، كما يقول القس بطرس حجي، أن العنف لم يكن على الاطلاق سبباً لهجرة المسيحيين من كردستان الى خارج العراق. القس حجي يعتقد ان المسيحيين الذين جاؤوا من مجتمعات منفتحة ومختلطة نسبياً مثل بغداد ونينوى، وجدوا انفسهم مرغمين على العيش في مجتمع عشائري محافظ. هذا الامر كما يقول حجي ولّد لدى المسيحيين «إحساساً بالغربة»، وصعوبة في التجانس مع مجتمع لا يفهمون حتى لغته. يمتد الأمر كما يقول الباحث المسيحي فابيان نعوم، الى مشكلات اخرى لا يدركها الا المسيحي القاطن في كردستان، أولها نظام الوظائف الذي يعتمد بشكل رئيسي على منح الدرجات الوظيفية للاكراد قبل غيرهم من الاقليات. والمشاكل الثقافية المتعلقة بلغة الدراسة ونمط الحياة. يضيف الباحث نعوم، حوادث العنف التي طاولت المسيحيين في زاخو ودهوك عام 2011، الى الاسباب الأكثر تأثيراً على حركة الهجرة من كردستان. فهي كما يراها كانت نتيجة طبيعية لارتفاع حدة التطرف الديني في المجتمع الكردي، والذي يعرف اصلاً بأنه مجتمع متدين أنتج اول تنظيم متشدد في العراق، هو منظمة «انصار الاسلام» التي سبقت «القاعدة» في العمل العنفي داخل العراق. يتذكر نعوم أن الأسر المسيحية كانت ترى في اقليم كردستان مكاناً أمثل للعيش، حتى جاءت احداث زاخو لتضعهم امام حالة محيرة، فقد تسببت الاحداث التي بدأت بصراع محلي بين الاحزاب الكردية وانتهت الى عمليات استهداف للمسيحيين، في شيوع حالة من الهلع دفعتهم الى التفكير أكثر بالهجرة الى الغرب. تضيف باسكال وردة، وهي وزيرة سابقة في الحكومة المركزية، سبباً آخر يتمثل في مشكلة عدم الاهتمام بايجاد بيئة حاضنة تخفف عن المسيحيين كل ما عانوه من العنف والاستهداف طوال السنوات الماضية. يعتقد سكرتير المجلس القومي الكلداني ضياء بطرس، أن اغلب المسيحيين الذين لجأوا الى كردستان كانوا من الطبقات العادية والمسحوقة من العمال والموظفين العاديين. بالنسبة لاصحاب رؤوس الاموال، وهم النسبة الاقل، تحسنت اوضاع بعضهم هنا، لكن الغالبية تدهورت اوضاعها الاقتصادية لأنها تركت كل ما تملك في بغداد او باقي المحافظات. هؤلاء، كما يعتقد بطرس، هم الذين يجب ان نقلق في شأنهم، لأن رغبتهم في الهجرة الى الخارج ستزداد مع كل صعوبات تواجههم. الصحافي نامق ريفان يقول ان المسيحي اللاجئ الى كردستان، يواجه في الغالب مشكلات كبيرة على صعيد العمل، خصوصاً بالنسبة الى الكادحين البسطاء، فهؤلاء يعانون من منافسة العمالة الآسيوية في مجالات العمل بالمحلات والمطاعم والمتاجر، فيما تذهب فرصة العمل الحكومية غالباً للاكراد دون المسيحيين. ولا تقتصر الرغبة بالسفر على المسيحيين الفقراء وذوي الدخل المحدود، بل يتعدى الامر ليصل حتى الى الاغنياء الذين يمتلكون رؤوس اموال ضخمة ومشاريع في كردستان. فالمقاول الاربعيني فارس حنا الذي يعيش في كردستان قلق جداً من الاوضاع السياسية في كردستان وامكانية تدهورها لاحقاً، فالأمور عموماً «لا تبشر بخير» كما يقول فارس، خصوصاً بعد تصاعد حدة الخلافات بين الحزبين الحاكمين وقوى المعارضة التي دفعت مناصريها الى الشوارع في ربيع العام 2011. يقول فارس إن الاوضاع عموماً تنذر بأن الامور قد تعود يوماً ما الى مرحلة الحرب الاهلية التي اندلعت بين الحزبين الرئيسين في كردستان ما بين عام 1994 وعام 1998، وقد تقود اي مشكلة سياسية داخلية الى عودة الامور الى نقطة الصفر. يضيف التاجر فرنسيس زيا، الى مخاوف مواطنه حنا، بعض حالات الابتزاز التي يتعرض لها التجار المسيحيون الكبار من قبل عدد من السياسيين النافذين الجشعين، فقد فرضت الظروف على زيا في اوقات متفاوتة، أن يتشارك مع بعض هؤلاء، على ان الشراكة قائمة على تقديم المال من قبل زيا، فيما تنحصر مهمة الشريك المسؤول بتوفير الحماية لزيا وللمشروع من مسؤولين مبتزين آخرين. يلقي ابلحد افرام باللائمة على الكتل السياسية العراقية في مسألة تهميش المواطن المسيحي وإشعاره بأنه مواطن من الدرجة الثانية. ففي الغالب، لا يحصل المسيحي على درجة وظيفية عالية كمدير عام او غيرها من الوظائف المهمة، لأن هذه الوظائف اصبحت حكراً على الاطراف العراقية المهيمنة على الحكومة. يجمع الساسة ورجال الدين والمسيحيين الذين التقاهم كاتب التحقيق، ان جزءاً كبيراً من عملية اقناع المسيحيين بالبقاء في العراق يعتمد على العراقيين انفسهم، والجزء الاكبر من هذه المسؤولية تقع على عاتق حكومتي بغداد واربيل. فبدون ان تخصص الحكومتان وظائف كافية للمسيحيين، وتوقف الانتهاكات التي يتعرضون لها في كردستان وباقي محافظات العراق، ومن دون تسهيل مهمة التوطين الداخلي وتذليل صعوبات التعليم واصدار قوانين لحمايتهم من الاعتداءات واتهامات التكفير، من دون هذا كله، سيكون من الصعب ان يقتنع المسيحي بالبقاء في البلاد التي تعامله على انه مواطن من الدرجة الثانية، أو تستبيح دمه لانه لا يريد ان يكون جزءاً من الصراع الذي لم يتوقف منذ عشر سنوات. البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، ناشد مسلمي العراق في خطاب علني، ان يكونوا اكثر رأفة بإخوانهم المسيحيين، «نحن المسيحيين شركاؤكم في البشرية، وفي الوطن... كنا هنا قبل مجيء الاسلام، وبقينا معكم نقاسمكم السراء والارض... حافظوا علينا من اجلكم، فإن هجرتنا من العراق تضركم انتم اكثر مما تضرنا». يدرك رافائيل ايشوع الذي ولد وعاش في بغداد طوال عقوده الاربعين، ان ثقافته وانتمائه للعراق وللشرق سيتلاشى تماماً خلال بضع سنين يقضيها في المهجر. لكنه لن يتمكن ابداً من ان ينسى والديه وأخيه ادمون. * أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية العراقية (نيريج) وبإشراف محمد الربيعي.