في 20 تموز(يوليو) 2013، نشر مقطع فيديو على يوتيوب يظهر ساحة في حلب يتوسطها ستة رجال، ثلاثة مقابل ثلاثة. يعلن حكم لعبة شدّ الحبل أن الطرف الأول هو الدولة الإسلامية في العراق والشام، والطرف الثاني جبهة النصرة. يبدأ الطرفان بشد الحبل وسط هتافات الأطفال فيما كان واضحاً حرص الرجل الأول من جهة الدولة الإسلامية على إرخاء الحبل عندما كان يقترب فريق جبهة النصرة من الهزيمة، وشدها عندما يكون العكس، وبعد حماس يستمر لدقيقة، تنتهي اللعبة بالتعادل. تقوم منتديات جهادية بوضع الفيديو على صفحاتها، مرفقة بعبارة: «الحمد لله تعادلوا ولم يفز أحد منهما». كانت هذه واحدة من الرسائل الإعلامية لإخفاء الشقاق الذي حدث في صفوف «المجاهدين» في سورية بين جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام. لكن التباين بين الفريقين على أشدّه هذه الأيام على مستويين، الأول يقوم على استقواء كل طرف ب «الدلائل الشرعية» في رسائل وآراء تميل إما إلى هذا الطرف أو ذاك، والمستوى الآخر «ميداني»، مظاهر النزاع فيها تستند إلى انضمام كثير من جهاديي النصرة إلى «الدولة» وما يخلقه من تعقيدات بخصوص الأحقية بالمنطقة التي كان يديرها الجهاديون لصالح النصرة قبل انشقاقهم الناعم عنها. وجوه التباين عميقة، وتؤسس لمرحلة انشقاق حتمية لا يمكن تفاديها إلا في حالة سنوردها بعد عرض الخلافات. وقد يبدو مفاجئاً إذا قلنا أن أمير الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي يُنظر إليه ك «أمير عصامي» ويتفوق في ولاء أتباعه له على زعيم قاعدة الجهاد العالمي أيمن الظواهري. حرب الأدلّة والبيانات في 17 تموز، نشرت صفحة مؤسسة الفرقان «الجهادية» على الفايسبوك، القريبة من «الدولة الإسلامية»، تنبيهاً لزوار صفحتها بمنع أي كلمة تمس بالبغدادي أو الجولاني بسوء تحت طائلة التنبيه والطرد. هذا تحذير ليس موجهاً لمن لا يعترف بولاية كليهما، بل إلى جمهور الجهاد القاعدي الذين خرج قسم كبير منهم عن الإجماع، وانقسموا إلى فريقين كما القيادتين، ولم يكن يُعرف عن هذه الفئة نزولها إلى مستوى التراشق الكلامي لطالما تهكموا بذلك على «السياسيين الدنيويين». إلا أن الماكينة الإعلامية للبغدادي تدفع لتأليب جمهور الجهاديين على النصرة بمقاطع فيديو مركّبة يطلب فيها البيعة لنفسه من الجولاني، وكان آخرها في 17 تموز بعنوان «تنبيه الغافلين عن بيعة أمير التنظيم» يذكّر فيها بحل مجلس شورى المجاهدين في العراق لنفسه لصالح الأمير السابق لقاعدة العراق أبو عمر البغدادي في 15 تشرين الأول(أكتوبر) 2006، ما يعني أن على الجولاني الاقتداء بذلك. لا يتسرب الخلاف إلى جمهور الجهاديين إلا لأن هناك من يغذّيه في القيادة، حيث يفاجأ المرء بجرأة أبي محمد العدناني، المتحدث الرسمي باسم الدولة الإسلامية، على أيمن الظواهري، فوصف في رسالة نشرت بتاريخ 20 حزيران(يونيو) الماضي اجتهاد الظواهري الذي قضى بعدم الموافقة على الدمج بأنه «خاطئ ومؤدٍ للفتنة». لم تتداول المنابر الجهادية هذه الرسالة إلا على نطاق ضيّق، واقتصرت على السائرين في درب البغدادي إضافة إلى المنبر الرسمي له وهو «مؤسسة الاعتصام»، إضافة إلى قسم الدولة الإسلامية في «المنبر الإعلامي الجهادي» ذلك أنّ الاتجاه التحزّبي أمر لم يعتد عليه دعاة الجهاد القاعدي وأنصاره، اتهم العدناني في الرسالة التي حملت عنوان «فذرهم وما يفترون»، الظواهري بأنه أقر أمراً يؤدي إلى المعصية بتفريق الجماعة الواحدة. واتهمه ب «تكريس حدود سايكس بيكو». وأبعد من ذلك، فإن من أبقى بيعته للجولاني من جبهة النصرة هم في حكم «العصاة المنشقين» على صاحب الولاية التي «سُلِبت» من البغدادي. طيلة 21 دقيقة هي مدة الرسالة الصوتية، تلقى الظوهري دروساً فقهية وتذكيراً بآيات قرآنية كتلميذ، وبنبرة عالية وفوقية. هذه لغة خطاب جديدة تدخل إلى أدبيات الجهاد، ونفهم منها وكأن لسان حال البغدادي يقول للظواهري: إلزم حدودك!. كانت المنابر الإعلامية الجهادية قبل هذا الخلاف الخطير انعكاساً لحالة تنظيم القاعدة وفروعها: «عائلة واحدة»، تسودها الرتابة الداخلية والتسليم التام بالهرم القيادي بين المركز والفروع، ولم تكن القيادة في يوم من الأيام مشكلة تستدعي أن يعطيها دعاة الجهاد وقتاً وجهداً للبت فيها. وإن وُجدت خلافات، فإنها لم تخرج للعلن إلا مرة واحدة عندما أفرجت الاستخبارات الأميركية عن وثائق قالت إنها عثرت عليها في المقر الذي قتلت فيه أسامة بن لادن (آبوت آباد) في باكستان، ومنها رسالة لعزّام الأميركي (يحيى غدن) يحرض فيها بن لادن على قطع الروابط التنظيمية مع الدولة الإسلامية في العراق «الوهمية»، مذكراً إياه بأن العلاقة مقطوعة عملياً منذ سنوات وأن إعلانها اتخذ من دون استشارة «القاعدة». هذا الكشف النادر للخلاف تم نفيه فور نشرها في أيار (مايو) 2012، لكن أنصار البغدادي سيستخدمونها في ما بعد. مواقف المنظّرين لم يفرز الخلاف اصطفاف كبار دعاة الجهاد مع البغدادي، إنما العكس، كسب الجولاني أصواتاً مهمّة لها إسهاماتها المعتبرة على الساحة، والنتيجة أن الجهاد العالمي الذي يسير خلف «القاعدة» يشهد انقساماً في أضلعه الثلاثة: الأمراء والجنود، الجمهور، والدعاة. الملاحظ أن الخطاب الوحدوي الذي يقول ببقاء الوضع على ما هو عليه، أي الاعتراف المتبادل بين «النصرة» و»الدولة» بهدف تفادي الضرر الأعظم، وهو الصدام بين الطرفين، ليس له ما يسنده في الشرع والأدلة الفقهية الخاصة بالجهاد. من أبرز الرسائل التي انتصرت للجولاني تعود للداعية الجهادي أبو عبد الرحمن فوزي الأثري، نشرها في 24 نيسان (أبريل) الماضي في 20 صفحة بعنوان «أميرٌ أمَر وجنديٌ عصى»، وتضمنت أدلة فقهية قائمة على قياس الضرر من النفع، واعتبر أن قرار البغدادي «فيه من المفاسد ما يهدد كل ماتم بناؤه»، منتقداً غمز ولمز بعض أنصاره بأن «النصرة» تعترف بحدود سايكس بيكو (بجعل إقليم الشام مستقلاً عن العراق). وأشار إلى وقوع القائلين بوجوب طاعة الأمير في «شرك الطاعة»، وساق أمثلة عن صحة رفض الجندي طاعة أميره إذا كانت فيه مفسدة كما فعل جنود المهاجرين والأنصار في جيش الصحابي خالد بن الوليد عندما رفضوا تنفيذ أمره بقتل الأسرى في غزوة على بني جذيمة. اتخذ دعاة آخرون للجهاد الخط ذاته الذي سلكه الأثري، منهم عبد المنعم حليمة (أبو بصير الطرطوسي)، نشر رسالة مصورة في 10 نيسان (أبريل)، أكد خلالها أن إعلان البغدادي باطل بأدلة العقل والنقل، ومثله ذهب إياد قنيبي، وزاد عليه بأنه لا يوجد واجب شرعي لمبايعة دولة (يقصد البغدادي) غير ممكّنة وغير مستقرة، كذلك طلب الداعية أبو الوليد الأنصاري أن يراجع البغدادي إعلان الدولة «من أجل مصلحة المسلمين». أما المنبر الإعلامي الرسمي لجبهة النصرة، وهي «المنارة البيضاء لمجاهدي الشام»، فقد شكّك في أن يكون الجولاني قد بايع أبو بكر البغدادي أساساً. تناقض الظواهري ما ذهب إليه دعاة الجهاد ليس اصطفافاً خلف الظواهري، ذلك أن ما استندوا إليه من أدلّة وأحكام يصح أيضاً إشهارها في وجه الظواهري نفسه، قياساً على حادثة مشابهة وقعت، وقيل أن موقف الظواهري يذهب إلى ما ذهب إليه البغدادي بعدم جواز عصيان الجندي للأمير. ففي رسالة مؤرخة بتاريخ 3 تشرين الأول 2012، من قيادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي إلى زعيم القاعدة في شمال مالي مختار بلمختار الملقب بالأعور (قتل في آذار(مارس) الماضي)، رفض فيها طلبه بالانفصال عن قاعدة المغرب تحت اسم «إمارة الصحراء» مرفقاً بالتعليل الشرعي والسياسي. ورفض الظواهري - وفق ما تداولته المواقع الجهادية - الرد على طلبات عديدة أرسلها الأعور يطلب فيها الاستقلالية عن قاعدة المغرب. وتفسيراً لتناقض موقف الظواهري في الحالتين، يرجّح كاتب في منتدى جهادي (أنا المسلم) أن الرسالة التي نشرتها «قناة الجزيرة» ببطلان الاندماج بين تنظيمي العراق والشام، مصدره مدير مؤسسة سحاب للإنتاج الإعلامي (الجهادي) يحيى آدم غدن، الملقب ب»عزام الأميركي»، وهذا الأخير لم ينشر الرسالة في الموقع، ما يعطي سنداً، وإن كان هشّاً، للمنابر الجهادية الموالية للبغدادي بأنّ رسالة الظواهري قابلة للتشكيك. صراع الرايات ما يجمع الدعوات والاجتهادات المؤيدة للجولاني ليس انحيازاً للنصرة مع التسليم ببقاء «الدولة الإسلامية» ناشطة في سورية، بل إعادة دمج الجهاديين جميعاً تحت راية الجولاني. لكن حتى لو تحقق ذلك، فإن هذه سابقة في تاريخ الجهاد العالمي الحديث، فطالما من حق الجندي (الجولاني) معصية الأمير (البغدادي)، فإن أمير هذا الأخير هو الظواهري (وفق الهرم القيادي)، ويحق له خلع بيعته والاستقلال ب»الدولة الإسلامية» عن «القاعدة» في حال رأى في الارتباط ضرراً ومفسدة. ما يمنع الظواهري من تزكية البغدادي في ضم الشام لدولته الافتراضية، أنه سيتحول - أي الظواهري - إلى مجرد زعيم رمزي بلا وزن على الأرض، فيما ستتركز القيادة الفعلية في يد البغدادي إذا نال حقوقاً حصرية في ما تيسر له من أرض الشام. كما أن دافع الجهاد في سورية له أفضلية على غيرها من المناطق التي تشكل وجهة للجهاديين في العالم، بل إن هؤلاء يتحاشون جعل فلسطين أرض جهاد إذ إن تحريرها لا بد أن يسبقه إقامة الحكم الإسلامي في الشام وفق الترتيب التسلسلي الوارد في «أحاديث آخر الزمان». والشام، هي أيضاً، نقطة حشد للمجاهدين في عملية جهاد استباقية لرد غزو تتعرض له الشام من الغرب، وفقاً للأحاديث ذاتها. ما يزيد من حرج الظواهري في موقعه الحالي، في حال خرجت الشام من يده إلى البغدادي، أن المتطوعين للقتال في صفوف جناحَي «القاعدة» يعطون الشام قيمة وجدانية مرتبطة بحديث نبوي يدخل ضمن النبوءات، وهو أن «الشام أرض باركها الرسول». في الحديث يوصي النبي محمد، الأمّة بأن يلحقوا بجند الشام «فإنها خيرة الله من أرضه». وجاءت اليمن في المرتبة الثانية، لكن لم يوصِ الحديث الذي ورد في «سنن ابن داوود» بالالتحاق بجند العراق فيما لو كان الجهاد قائماً في الشام. ومن اللافت أن مدير المركز القومي الأميركي لمكافحة الإرهاب، ماثيو أولسن، أقرّ أخيراً بأن سورية أصبحت بالفعل أكبر ساحة للمعارك الجهادية في العالم. وتسجل أحاديث «آخر الزمان» نقطة أخرى لصالح الشام عندما تتفق كل الروايات على أنها المكان الذي سيشهد الملاحم الحاسمة التي تترافق مع ظهور المهدي المنتظر وما يسبقها من أحداث متوقعة بظهور السفياني واليماني والأبقع. حتى أن أبي محمد العدناني قال في خطاب صوتي بتاريخ 30 تموز (يوليو)، بأنهم لن يتركوا الجهاد حتى يسلموا الراية إلى عيسى بن مريم الذي سيظهر، وفق اعتقادهم، شرقي دمشق. وليس من الغريب أن يكون الموقع الإعلامي الرسمي لجبهة النصرة يحمل اسم «المنارة البيضاء»، والمنارة المقصودة هي موضع في دمشق (بين باب شرقي والجامع الأموي) ينزل فيه عيسى بن مريم وفقاً للنبوءات السنية وبدرجة أقل الشيعية. كل هذه السرديات الملحمية تدخل في حسابات الخلافات الحالية داخل «القاعدة» وإن بدت غير ظاهرة. بالنسبة للظواهري، فإن إبقاء البغدادي بعيداً عن ساحة الشام كفيل بتحجيمه كزعيم محلي، ويكسب الظواهري ولاء الجولاني له، رغم عدم وجود أي ضمان بأنه سيصمد أمام البغدادي الذي يحظى بدعم غالبية الجهاديين في سورية، ولا تهمه كسر كلمة الظواهري. يضاف إليه أنّ الأخير يتخذ من باكستان وأفغانستان مقراً له، ولا توجد منطقة نفوذ مستقلة له هناك بمعزل عن حركة طالبان. فلا غرابة أن تكون الشام حلماً له، فكل علامات الظهور الكبرى وأهوال آخر الزمان مشروطة بسيناريو معين للأحداث تكون الشام مركزاً لها، حيث المنارة البيضاء وموطن تلاقي وافتراق الروايات السنية والشيعية. والنبوءات الدينية - سواء وافقت معتقدات البعض أم لا - باتت مرجعاً يحرص بعض صانعي الأحداث على التحرك وفقاً لما تقوله في «أرض الشام». غداً حلقة ثانية أخيرة