عن عمر ناهز الثالثة والسبعين وفي أحد مستشفيات العاصمة السويدية استوكهولم، رحل الشاعر الكردي الكبير شيركو بيكه س بعد صراع قصير مع مرض سرطان الرئة. ولد شيركو بيكه س في مدينة السليمانية العراقية عام 1940، وهو ابن الشاعر الكردي المعروف فائق بيكه س، بدأ الكتابة في السابعة عشرة من عمره وصدر له ثمانية عشر ديواناً منذ 1968، وكتب مسرحيتين شعريتين، واهتم بالترجمة فنقل رواية «العجوز والبحر» لتولستوي عن العربية إلى الكردية. وفي عام 1970 أسس حركة روانكة (المرصد) الشعرية وقد ضمت عدداً كبيراً من الشعراء الأكراد. شيركو بيكه س رائد الشعر الكردي الحداثي وأشهر من برع في قصيدة النثر الكردية، تنوع إنتاجه ما بين النصوص القصيرة جداً والطويلة والقصة الشعرية والمسرحية الشعرية وكذلك الرواية الشعرية. أعاد الاعتبار للتراث الكردي الشعري والأسطوري، وتأثرت كتاباته بالسياسة والتاريخ والحكايات والملاحم الغنائية حيث تمكن من ابتكار نسق شعري خاص جمع ما بين الحكاية والتاريخ والحوار الدرامي والذاكرة الشعبية والغنائية. لغته الشعرية نهلت من معين الطبيعة التي أعاد الاعتبار لها شعرياً على طريقته التي تجمع بين الرومنطيقية والوجودية، بحيث يعج عالمه بمعجم طبيعي فريد: الجبل والسهل والينابيع واليمامة والغيوم والنوافذ والأشجار والتلال والرعاة وقطعان السحب والمطر والثلج... وتميزت تجربته بالتلقائية والعفوية اللتين تخفيان خلفهما الكثير من المراس الشعري والثقافة والمعرفة والوعي التقني. وفي لقاء خاص قال لي: «قليلاً ما أعيد كتابة القصيدة، الكتابة الأولى تبقى نضرة دائماً». القراء العرب عرفوا شيركو بيكه س من خلال مجموعته الأكثر شهرة «مرايا صغيرة» التي صدرت عن دار الأهالي في دمشق منتصف الثمانينات ثم تتالى صدور ترجماته إلى العربية: «ساعات من قصب»، «2000 كلمة لعام 2000»، «سفر الروائح» و «إناء الألوان»، إضافة إلى مختارات شعرية له صدرت قبل سنوات في القاهرة عن هيئة قصور الثقافة في سلسلة آفاق عالمية. زار دمشق وبيروت كثيراً وأحيا فيهما أمسيات شعرية. وكان على علاقة مع عدد كبير من الشعراء العرب. وعن علاقته باللغة العربية يقول: «مرجعيتي الأولى، بعد اللغة الكردية هي اللغة العربية. ومن خلال هذه اللغة تعرفتُ إلى الآداب والثقافة العالمية. أي من خلال مكتبتها التي فتحت أمامي كثيراً من النوافذ الشعرية والأدبية عربياً وعالمياً. دخلتُ إلى هذا العالم من خلال ممرات مضيئة للإبداع، أتذكر أن أول ما قرأته وبصعوبة، في الشعر العربي، مستعيناً بالأصدقاء والقواميس كان نتاج شعراء المهجر وأولهم جبران خليل جبران، وبعد سنوات كان للسيّاب حضوره الدائم في حياتي الشعرية». في الأعوام الأخيرة كان يكتب كثيراً وينشر قليلاً ومؤسسة «سردم» الثقافية التي كان يشرف عليها حتى وفاته، ستعيد طباعة أعماله الكردية والعربية وتنشر قصائده التي لم تسعفه الحياة في جمعها... غياب شيركو بيكه سيترك فراغاً كبيراً في الشعر الكردي. ثلاث قصائد شيركو بيكه س موتي ها هو ذا موتي يزورني كل ليلة لمرة أو مرتين ويتكئ على أحلامي ها هو ذا موتي ظلّ لي يعدُّ كل يوم خطواتي يفتش أوراقي يبحث عن آخر عناويني. ورقة بيضاء منذ متى وأنا جالس وما زالت ورقتي بيضاء بيضاء بيضاء لم ينبت فيها حرف جافة وقاحلة لا ينبع منها ماء منذ متى وأنا جالس وما زالت ورقتي بيضاء الشجرة التي قرب النافذة تنظر إلي بمللٍ وما زالت ورقتي بيضاء تحط يمامة عليها تلعب معها تهمس مع الأغصان ثم تطير وما زالت ورقتي بيضاء فجأة تميل الشجرة مع الهواء الأزرق على زجاج النافذة وتكتب قصيدتها وما زالت ورقتي بيضاء. حبكِ حبكِ زاد النهار والليل ساعة الساعة الخامسة والعشرون حبكِ زاد الأسبوع يوماً اليوم الثامن حبك زاد السنة شهراً الشهر الثالث عشر حبكِ زاد الفصول فصلاً الفصل الخامس هكذا وهب حبكِ عمري ساعةً يوماً شهراً فصلاً أكثر من الآخرين. * قصيدة «موتي» ترجمها الشاعر نفسه، والقصيدتان «ورقة بيضاء» و«حبكِ» من ترجمة مروان علي