السير الحثيث نحو الوصول لتحقيق الأهداف المرسومة في الخيال كفيلٌ بأن يَلِدَهَا التفاني والإصرارُ حيَّةً في أحضانِ الواقع كي تنمو وتثمرَ شموخاً ورفعةً وسموّاً يصطحبُ معه المحيطين إلى فضاء حياة الإنسان الهانئة الرغيدة التي يَنبذُ فيها الحقد والتناحر ويرحب بالحب والتعايش في سبيل تطوير الإنسان وازدهاره ورفعة شأنه، وهو الأمر الأهمُّ في وجود بني الإنسان على هذا الكوكب. هذا ما يجب أن يكون قد أسس له أذكياء الأجداد للآباء ليُكْملَ الأبناءُ البناءَ. الأجداد ذوو المبادئ والقيم التي لا يزيغون عنها قيد أُنملة والذين يَلْبَسُون ثيابَ الحفاظ على المبادئ والكرامة والحقوق مع إضفاء جلباب العطف والرحمة على كل من حولهم، والآباء الذين يسيرون على النهج ذاته ويجددون في التوجّهات بحسب متغيرات العصر ومتطلباته مع المحافظة على ما بناه الأجداد من قيمٍ ومبادئ تخدم الصالح العام والتنصُّل مما بَليَ من عادات خفَتَ ضوؤها ولم تعُدْ صالحةً للزمان والمكان ولا فائدةَ في الإبقاء عليها، والأبناء هم أولئك الذين يسيرون وفق أفكارهم المواكبة للعصر ويبدعون في مسايرتهم لمواكب التطوّر والنجاح وحفظهم لإرثهم ومزاحمة الآخرين على قمم المعالي، وهم صُنَّاع الأجيال التي تساندهم وترتقي بوطنهم، وتحفظ مدخراته، ويبعدون الحائدين عن الطريق الذي يضمن لهم السير قدماً نحو تحقيق الأهداف المنشودة حتى وإن كان الحائدون أجداداً أو آباءً أو من المحيطين، أو من الدخلاء أو من المتربصين، لا أن يلاحقوا السراب بأبصارهم ويلهثون وراءه فلا يجدون إلا المشقّة والخسران العظيم، السراب الذي نعرفه بأنه ما لا تُدركه الحواسّ الخمس إدراكاً حقيقيَاً حتى وإن تراءى لحاسة البصر إدراكه فهو لا شيء وإدراكه ضربٌ من ضُروب المستحيل، يطارده البلهاء فيُضِيْعون وقتهم في مطاردته ويبنون آمالهم على وهمه، ويقتادون الرعاع والسذّج فيصدِّقونَهم فتتخبَّط خُطاهم بحثاً عن حقيقةٍ مزعومةٍ وكلّهم سيصلون إلى بئس المآل. الدولة التي تطارد السراب هي من تتكئ على مخلفات الماضي، وتغفل عن ركائز الحاضر، فتهدم ولا تبني، وتسعى ولا تدرك، وتزرع ولا تحصد، وتحرث السَّبِخَة فلا تنبت، وتتغافل عن الخِصْبَة فلا تجني ثمارَها، وما يحدثُ في دُولِ الدهْرِ العربي من تقاتلٍ وتقاسُمٍ للموت نتيجَةٌ صادقةٍ للفكر الرديء الذي يفتكُ بتلك البلدان الناميةِ بل «النائمة عن الحقيقة» التي يعتصر الألمُ نساءَها الثكلى وأيتامها الحزنى فيبيتون على مضضٍ وتشرق شمسهم بلا ضياء. لو أنَّ العربَ استقالوا من مخلفات الماضي وترّهاته لاستقلوا وعانقوا نجومَ السماء، فهم في غنى عن الماضي ولديهم ما قد يرفع شأنهم إن اجتهدوا وتطلعوا ورفعوا رؤوسهم وأرجعوا البصرَ كرَّات ومرَّات. بعض الدويلات تهيم في الأرض بلا أجندة للمستقبل، تبحث عن قوت يومها كالقطط الشوارعيَّة وإن مسَّها الجوع والضُّرُّ تآكَلَتْ وتقاتلت واختلقت الأسباب لذلك وطفقت تهيم على وجوهها تبحث عن سدِّ فراغ النقص الحالي غير مباليةٍ بغدِها الذي فيه ما يفوق تحدّيات أمسها، فالفقيرة منها ترزحُ تحت فقرٍ مدقعٍ وسُقمٍ موجعٍ، والغنيَّة يطمعُ كبارُها في طعامِ صغارها وكلهم غافلون عما ينبغي التنبُّه له وهو «الإنسان» الذي يعتبر محور العمليّة الحياتيّة وهو الجدير بالبناء والتطوير، وذلك بأن تُنسَبَ الأشياءُ له حين الاهتمام بها، وأن تكون النظرة ثاقبةً من أجل تسخير كل شيءٍ له، ومن أجله يكون التأسيس لكي تتعاقبُ الأجيال على إكمال البناء لمصلحةٍ واحدةٍ هي مصلحة الإنسان، وهذه هي الإنسانيّة التي انسلخَ العرب منها وذهب كلٌّ يداري مصالحه الخاصّة وترتعد فرائصه خوفاً على زوال نعمته ومستقبل خاصّته. إنَّ من كمال العقل ردّ الجميل، فالجميل يتوارثه الناس حين يبني الأول للّاحقين فيُتداول التابعون البناءَ على مرِّ العصور لضمان بقاء الإنسان عامراً للأرض وتستمرُّ الحياة. * كاتب سعودي في لندن. [email protected]