معروف عن المصريين عواطفهم الجياشة، ومشهورة عنهم حماستهم الزائدة والمشاعر الفياضة التي تفيض غيظاً وكرهاً حيناً وولعاً وعشقاً أحياناً. تاريخهم القديم حافل بقادة بجّلوهم واحترموهم، وملئ بملوك كرهوهم وازدروهم، والحديث ينضح برؤساء عشقوهم وحملوهم على الأعناق، وآخرين رفعوا الأحذية في وجوههم وطالبوا المعين الجبار بأن ينتقم منهم شر انتقام. لكنها المرة الأولى التي يقف فيها المصريون فريقين: الأول ينام ليله حالماً بالزعيم والقائد ويصحو من نومه ليقبل صورته ويهتف باسمه، بينما الثاني ينام ليله حالماً بالتخلص من الزعيم والقائد معتبراً إياه غمة مصيرها الزوال وسبة في جبين التاريخ، ويصحو من نومه لينظر إلى صورته ولسان حاله ينضح بكره شديد ومقت عميق. عمق المشاعر المصرية أجج مشاعر الحب وأحاسيس الأخوة لدى المرابطين في «رابعة العدوية» حيث «الشرعية والشريعة» لدرجة جعلت بينهم من يقدم على قضاء لياليه وأيامه وحاجته في الشارع على مدار شهر كامل من أجل الدكتور محمد مرسي الذي لم تكن غالبيتهم تعرفه أو تسمع عنه قبل عام واحد. مرسي بالنسبة إلى «رابعة» هو «الحاكم بأمر الثورة» وهو «الرئيس الشرعي» وهو «أول رئيس حافظ لكتاب الله» وهو «حبيب الشعب» وهو «العائد إلى القصر يوم الأحد العصر». الشعارات مرفوعة واللافتات مكتوبة والأيادي تتعامل معها وفق السياق الدرامي. الكاميرات الأجنبية تستوجب هتافات قصيرة مفهومة بكل اللغات مثل «مرسييي مرسييي هوو هوو» أو «مرسي وي لاف يو». أما الكاميرات الفوتوغرافية فتستوجب ما هو أكثر، ما يمكن تخليده في ذاكرة المتلقي الأجنبي، وليس هناك ما هو دولي أكثر من قبلة يطبعها المعتصم على وجه مرسي ليعرف العالم مقدار الحب وحجم اللوعة. وبعيداً من عنوان الاعتصام المتأرجح بين «الشرعية والشريعة» و «برو ديموكراسي آنتي كو» (مع الديموقراطية ضد الانقلاب) وذلك وفق تغير الظروف وتعديل بوصلة توجيه الرسالة، فإن المعتصمين، سواء المقيمين «فول بورد» (إقامة كاملة) أو أولئك الذين يأتون «بد آند بريكفاست» (نوم وإفطار) أو «داي يوز» أي يمضون النهار ثم يعودون أدراجهم إلى بيوتهم كل يأتي مدفوعاً بمشاعره الخاصة. منهم من أتى بدافع حماية الإسلام، ومنهم من جاء لنصرة الشريعة، وهناك من أتى بضغط حب الجماعة التي يدين لها بالولاء والعرفان والجميل المادي منه والمعنوي. لكن يظل الأكثر إثارة على الإطلاق أحدهم الذي أتى لأن مرسي يشبهه، فإضافة إلى وجه الشبه في الملامح واللحية الخفيفة والنظارة الطبية، فإن الرجل لم يعن هذا، بل قصد أن مرسي يشبهه ويشبه أهله وأسرته في طريقة الكلام المبني على الود والمحبة، وفي أسلوب الشرح القائم على نظريات كونية عامة وليس على أفكار محددة، وفي العفوية في الغضب وأيضاً في إطلاق العنان لحل المشاكل وتناول العقبات من خلال التهديد والوعيد تارة والدعوة إلى نسيان ما فات وفتح صفحة جديدة بدلاً من القديمة تارة أخرى. وفي الجهة المقابلة، استهل فريق من المصريين فصلاً جديداً من فصول المحبة وبحور العشق مع وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي الذي وجد نفسه بين ليلة تظاهرة شعبية وضحاها بطلاً مغواراً وزعيماً مقداماً. وبعيداً عما يقال من أن عزل مرسي كان انقلاباً عسكرياً طمعاً في حكم البلاد، فإن الكثير من أحاديث البسطاء وتلميحات الأغنياء تصب في محبة السيسي. فهو لبعضهم نموذج للقائد كما ينبغي أن يكون، مزيج من الحسم والحنان وخليط من الحزم والوجدان. ملامح وجهه تنضح بهدوء لا يخلو من شدة وقت اللزوم، وهو ما يترجم العبارة الأكثر رواجاً في الشهرين الأخيرين من حكم مرسي: «مصر تحتاج رجلاً في الشدة شديد والحنية حنين»، أي أن الانفلات والبلطجة الطاغيين في حاجة إلى من يسيطر عليهما بحزم من دون هوادة، كما أن الفقر والعوز المنتشرين في حاجة إلى من يتعامل معهما بحزم أيضاً ومن دون هوادة. أما تلميحات الأغنياء وأبناء الطبقة المتوسطة فتكتفي في هذه المرحلة بالتساؤل المتحفظ عما إذا كان ترشح رجل مثل السيسي أمراً ممكناً أم لا؟ وهل في الإمكان أن يحكم مصر في هذه المرحلة الصعبة رجل من دون خلفية عسكرية أم لا؟ وكلها أسئلة يعرف أصحابها الإجابة مقدماً، أو فلنقل يتمنون أن تكون الإجابة بنعم. قطاع عريض من المصريين تخلى عن أحلامه المعقدة بمواصفات الزعيم المنشود في أعقاب «ثورة يناير». كثيرون باتوا يعتبرون مستوى التعليم والخلفية السياسية والمواصفات الكاريزمية والمؤثرات الصوتية أشبه برفاهيات لا تتحملها خطورة المرحلة الراهنة. باتوا على يقين بأن المطلوب هو زعيم «دكر» بغض النظر عن مقوماته، يتيم الأهل حتى وإن كان غير حافظ لكتاب الله بالكامل، منزوع العشيرة حتى وإن كان يسكن في شقة تمليك وليست «إيجار جديد»، وهي المواصفات التي دغدغ بها مرسي مشاعر البسطاء في بداية حكمه. طلب السيسي تفويضاً من الشعب ليحميه من العنف والإرهاب المحتمل، وتلبية الملايين لطلب التفويض تحول حلماً بالقيادة، وهو الحلم الذي يمكن أن يترجم في ضوء الإحباط الرهيب والخوف الشديد الذي ألم بجموع المصريين مع مرور عام كبيس من حكم الجماعة. وقد يكون لكلماته النابعة من الثقافة المصرية التي يفهمها كل المصريين وليس الثقافة «الإخوانية» التي يهضمها الأهل والعشيرة فقط، وقد تكون لأن «سيماهم على وجوههم» وسمات الرجل دخلت قلوبهم. لكن تبقى الهوة عميقة والفجوة صريحة بين «ارحل يا سيسي مرسي هو رئيسي» و «سيسي، سيسي أنت رئيسي». وتبقى حقيقة مؤكدة، وهي ان صورة مرسي المثبتة على السيارة كفيلة باستفزاز بعضهم وإغضابه وربما تهشيمها، أما صورة السيسي فكفيلة باستنفار بعضهم وإثارة جنونه وربما تهشيمها ومن في داخلها.