بينما الفريقان يستعدان لمليونيات الجمعة التي بات الحشد لها والتهديد بها يرفعها إلى مكانة ال «تريليونيات»، يغيب عن كثيرين ما آلت إليه أوضاع وأحوال ومشاعر وانكسارات مكوني تلك «التريليونيات» بعيداً عما يعلنه أمراؤها من سحق للمعارضة، وإقصاء للمغالبين، واعتقال للمزايدين، وعزل للانقلابيين. القشرة الخارجية المسيطرة على أعضاء الفريقين تبدو صلبة عتيدة عاتية، فهي قشرة معضدة بماكينات إعلامية ضخمة، وأدوات عنكبوتية شرسة، وخطوات تكتيكية محبوكة، وجموع غفيرة باتت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار غضباً وإحباطاً وإنهاكاً. جموع المصريين الذين عانوا الأمرين طيلة عام مضى من حكم الدكتور محمد مرسي والذين طفح بهم كيل الإقصاء والتهميش والترويع والتهديد والتكفير وصولوا مرحلة دعم «أي شيء ورحيل الجماعات الدينية»، وهي مرحلة شبيهة بتلك التي ينتهجها أنصار الفريق المضاد من «أي شيء والشرعية والشريعة». لكن شتان بين «الشيئين» المرتقبين، فالشيء المدعوم من قبل فريق «30 يونيو» يعني دعم وتأييد وتعضيد أي نوع من أنواع الحكم يبتعد من مقصلة الحكم الديني حتى وإن رفع مقاصل أخرى شرط ألا تكون ملتحية، وينأى بنفسه عن تفضيل الأهل والعشيرة حتى وإن فرض مجدداً أهل الثقة وأبناء العمومة ومحيط الجيرة، ويترفع عن كونه ديكتاتوراً أتت به الصناديق حتى وإن كان البديل ديكتاتوراً أتت به كراهية ديكتاتور الصناديق. قالها متفكهاً لكنه كان يعني جزءاً منها «موسوليني (الديكتاتور الإيطالي) أرحم من مرسي وجماعته»، وقالتها مداعبة لكنها لا تخلو من صدق «فرانكو (الديكتاتور الإسباني) أحن من المرشد ورجاله». قطاعات أخرى كثيرة من تلك المنقلبة على حكم الجماعة وحلفائها لا تعرف موسوليني أو فرانكو، لكنها انقلبت لأنها انتقلت من خانة الفقر إلى الفقر المدقع، أو لأنها بدل من أن يعتلي مائدتها اللحم مرة في الشهر ودعها من دون وعد بلقاء، أو لأنها فوجئت بمن يصنفها «مسلمة داعمة للجماعة ومآبها الجنة» أو «مسلمة غير داعمة للجماعة ومآبها مشكوك فيه»، أو لأنها لم تتحمل خطاب العنف والتكفير والكراهية والإقصاء والكذب على مدار عام من حكم مرسي. وتستيقظ هذه القطاعات اليوم على وقع دعوات إلى النزول مجدداً إلى الميادين، إما إحياء لذكرى «انتصار العاشر من رمضان» وما يحويه ذلك من احتفال بالجيش، أو لحماية مكتسبات «30 يونيو» وما يعنيه ذلك من دعم القوات المسلحة في تحقيق إرادة الشعب، أو للمشاركة في «جمعة النصر والعبور» وما يحمله ذلك من تأييد للجيش في انتصاره لرغبة المصريين وعبوره بهم من يم «الإخوان» إلى بر الأمان. لكن بر الأمان الذي يستيقظ أتباع الفريق الثاني «الشرعية والشريعة» عليه صباح اليوم هو الشهادة في سبيل عودة مرسي والإبقاء على مصر «إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية». سيكون الحشد ضخماً والتأمين عتياً والتجهيز عتيداً في «مليونية الإصرار». المشاركون الذين لا يرددون إلا عبارات التنديد بالكفار والدعاء على العلمانيين والتأكيد «سيسي يا سيسي مرسي هو رئيسي» منذ أيام كثيرة سيرفعون الشعارات التي تُطلَب منهم، وسيرددون الهتافات التي تُملَى عليهم، وسيقومون بالأفعال التي يؤمرون بها لأنهم على قناعة بأنهم يجاهدون في سبيل الله. صحيح أن كثيرين منهم تعبوا وأنهكوا من طول البيات في العراء والهتاف في الهواء والركض ذات اليمين مرة إلى «الحرس الجمهوري» ومرة إلى «الاتحادية» والعودة للنوم في خيمة في «رابعة»، لكنهم يؤمنون بأنهم في معركة من أجل البقاء، بقاء دكتور مرسي. وعلى رغم أن الدكتور مرسي كان أعلن أن «ثورة يناير هي العبور الثاني»، إلا إن قيادات الجماعة الممسكة بتلابيب السيطرة على مصر ترى في مليونية اليوم العبور الثاني لاسترداد «الوطن المسروق». الوطن الحائر بين كونه مسروقاً من قبل «الفلول» والثورة المضادة أو مقلوباً من قبل القوات المسلحة أو مسلوباً من قبل الجماعات الدينية أو منهوباً من قبل جماعة لا ترى إلا نفسها يستيقظ اليوم حالماً بالعبور مما هو فيه. لكنه يبدو حلماً صعباً، فإذا كانت قيادات «شعب رابعة» المعتصم بين ربوعها والنائم في مداخل عماراتها والقاضي حاجته في حدائقها أقنعت أتباعها بأن سكان «رابعة» الأصليين يعيشون أحلى أيام حياتهم في ظل الإقامة ال «فول بورد» الجاثمة على صدورهم، وصورت لهم أن شعب مصر كله يؤيدهم في إدمانهم «الشرعية» وعشقهم «الشريعة» فكيف يتحقق العبور بالوطن إلى بر الأمان؟ وإذا كانت بقية فئات شعب مصر خارج «رابعة» باتت تنظر إلى شعب «رابعة» باعتبارهم فئة ضالة تتراوح مقترحات التعامل معها بين شدة السجن والاعتقال ووسطية النفي والإقصاء وليونة العلاج النفسي والتأهيل العصبي، فكيف يتحقق العبور بالوطن إلى بر الأمان؟ ويبقى هذا الوطن حائراً بين عبورين، الأول لاستعادة الوطن المسروق وإعادة مرسي وتمكين الجماعة وحلفائها مجدداً وضمان القضاء على العلمانيين الانقلابيين الكفرة، والثاني لاستعادة الوطن المسروق والتأكيد على إبعاد مرسي ومعاقبة الجماعة وحلفائها على ما اقترفوه في حق مصر والإسلام. منفذو العبورين هم شعب مصر المحتار بين الانصياع لأمراء الجماعة وإلغاء خانة العقل لتحقيق مكاسبها من جهة، والوثوق في قادة الجيش وإلغاء خانة التخوين مع الإبقاء على خانة العقل خوفاً من ضياع الوطن برمته. وبين هذا وذاك بعض ممن يخونون طرفي العبور. فالحكم الديني مرفوض، والضلوع العسكري ممنوع لكن الحل الجوهري أيضاً غير مطروح لأنه غير موجود (بعد). همس أحدهم لصديقه مخيراً إياه بين أنواع العبور المطروحة: «إما أن تسلم نفسك لقبضة المرشد، أو تفرح وتهلل لتدخل القائد الأعلى، أو أن تعيش بقية حياتك محلقاً في آفاق أفلاطونية مفكراً في فضاءات حقوقية وهائماً في طرقات مثالية عن كيفية العبور بمصر إلى بر الأمان من دون حكم ديني أو انقلاب عسكري. إنه العبور السرمدي في عالم الميتافيزيقا».