كانت ابتسامة الجار الحلاق العجوز واسعة عند الصباح. وكانت بالتالي، كالعادة، إشارة إلى أن عنده ما يريد أن يحدّث صديقه الصحافي الشاب به، من ناحية، وأن ما يريد قوله مسلّ من ناحية ثانية. وكما يحدث عادة في مثل تلك المواقف تباطأ صاحبنا الصحافي في مشيته بل توقف وهو يلقي تحية الصباح، قبل أن يوقفه الحلاق نفسه بإيماءة ودودة من رأسه. كانت نظرة الصحافي تعني ما معناه: هات يا صديقي ماذا لديك اليوم؟ وكالعادة ما كان لدى الحلاق أتى من فوره على علاقة بالتلفزيون... وذلك بالتأكيد لأن حديث التلفزة هو ما يمتع الحلاق أكثر من أي حديث آخر. ولكن، فيما كان الصحافي يتوقع أن يدور الحديث حول المسلسلات الرمضانية و «عاديتها» وأن «ليس فيها جديد أو لافت هذا العام» كما كان يتوقع... أتاه تعليق الجار من حيث لم يكن يتوقع. فقد باغته قائلاً: «لقد اكتشفت في هذه الأيام الأخيرة متعة تلفزيونية لا تنضب ولا حدود لقدرتها على الترويح عن نفسي». وقبل أن تتاح للصحافي فرصة طرح السؤال المطلوب حول فحوى هذه المتعة، واصل الجار حديثه مبتسماً: «لقد اكتشفت أن أحلى ما في التلفزيون هو مشهد الضيوف، في برامج الحكي السياسي خصوصاً، حين يكون الواحد منهم مستغرقاً بكلّ جدية وحماسة في الإجابة عن سؤال، طويل كالعادة، طرحه عليه مضيفه طالباً منه إجابة واضحة. فهو يغوص محاولاً الإجابة والتحليل ويبدأ بتفنيد كلامه وتفسير مواقفه وتحليلاته وكله أمل بأن يصل إلى نقطة الذروة في هذا الكلام، أي إلى الاستنتاج الذي كان كل ما قاله مجرد تمهيد له... هكذا، قبل أن يصل إلى العبارة الأخيرة التي هي في رأيه، فصل المقال، يفاجئه المذيع بقوله: آسف لمقاطعتك... انتهى الوقت المخصص لنا... يقول المذيع من دون رحمة أو شفقة فيما الآخر لا يزال يواصل فتح فمه وإغلاقه غير متنبه إلى انقطاع الصوت بحيث بات يبدو كمهرج أخرس... وحين ينتبه يبتسم بمزيج من خيبة الأمل والحنق... وربما يتمتم عبارات غاضبة بيد أن أحداً لن يسمعه فقد قُطع الصوت». وإذ يقول هذا يبتسم الحلاق مكملاً: «والله يا صديقي، لو أن مخرجاً يقوم بجمع تلك اللقطات لوجوه الضيوف وهم يعبّرون عن خيبة أملهم ليرتبها وراء بعضها بعضاً في شريط متواصل، لطلع من بين يديه عمل فني إبداعي حقيقي، قد لا يدين المذيعين بمقدار ما يدين الضيوف الذين يقبلون بتلك اللعبة السمجة ويوافقون على العودة إلى خوضها بعد أن يكونوا لُدغوا من جحرها مرات ومرات...». هنا، إذ قهقه الحلاق بقوة صافحه الصحافي وتابع سيره وهو يأمل بألا يكون الجار قد تعمد أن يقول هذا أمامه الآن لأنه هو نفسه كان مرّ بالتجربة نفسها مرتين هذا الأسبوع!