بيئات الجهل والازدواجية والتناقض تتنابذ وبيئات الوعي والمعرفة والاتساق الأخلاقي والوجداني في كل أركان الحياة والوعي والمعرفة، أفراد تلك البيئتين لا يمكن أن يخرجوا أو يتخرجوا للحياة سواء حيث المدخلات والمقدمات الفكرية والقيمية والمعرفية عموماً متابينة لحد القطيعة شبه الكاملة، وإن حاولت مجتمعات التخلف أو أفرادها تمثل الموجودات المتمدنة عند الآخر المتفوق إلا أنها تظل مرهونة لجذورها مسكونة بالقار الثقافي، وما تمثل مجتمعات التخلف لقيم ومنجزات المتفوق إلا حال من المحاكاتية والادعاء المفرغ من الحقيقة والاستلهام والاستغراق العميق، إذ الطارئ والمستورد ليس كالمتجذر والقار في رواقات اللاوعي المستضمر... حال مجتمعاتنا إذا ما ورطناها في مقارنة مع المجتمعات المتفوقة سيبين مدى المفارقة واليتم الحضاري مهما هرعنا في دعاوى التمدن والإنسانية. لست أبالغ وأنا أحكي أو أدعو إلى تعلم الجهل بالتوازي مع تعلم العلم، خصوصاً على مستوى الأخلاق والقيم والعلاقات والحياة عموماً، حتى أكون أكثر وضوحاً أدرج في نماذج تقريبية... الناظر للمعطيات والدعوات الأخلاقية النظرية إن كتابية، وإن عبرالإعلام المرئي، وإن عبر منصات التواصل الاجتماعي وغيرها، وحتى الحوارات التي تدور بين أفراد المجتمع، سيجد أن الكل (تنظيرياً) في اتساق وانسجام ناحية التأكيد على احترام القيم والأخلاقيات العالية، كما يتواضع الكل على نمط ضمائري وجداني رفيع، بالمقابل حينما تبحث عن أرصدة عملية على الواقع وفي لحظات الفعل لن تجد من ذلك التنظير القيمي والإنساني والديني شيئاً وتلك مشكلة عميقة، لكن الأسوأ من ذلك بكثير أن يكون الوعي الاجتماعي ينتج أضداد الأخلاقيات العالية التي يتباهى بها ويبشر بها، وليس ينتجها على المستوى الفعلي فحسب بل يقوم بإنتاجها نظرياً باعتبارها المعوّل التنظيري. النتيجة أن ثقافتنا تمارس الانقلاب على قيمها المتعالية حتى في المجال النظري لكن الفرق أن مستندات القيم الأخلاقية الرديئة (سرية) لا يباح بها وإنما تمارس في الحياة العملية وهي سيدة الإيقاع الأخلاقي رسمياً ما بيننا... نموذجاً (قيمة التسامح) التي تآزرت على تكريسها القيم السماوية والأرضية، وبالمثال أحكي مستدعياً نصوصاً نبوية، كقول النبي «الإيمان الصبر والسماحة»، وقوله «رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى»، وفعله عليه الصلاة والسلام حينما تسامح مع عتاة قريش أعداء الأمس وقال «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، مثل هذه النصوص الصادرة عن الشخصية المقدسة التي هي مصدر أخلاقي ثانٍ بعد نص الوحي وهي المعتمدة في ثقافتنا نظرياً حينما تبحث عنها في علاقاتنا وحياتنا ستجد ما يزاحمها وغالباً ما يزيحها نظريات ومقولات اجتماعية متعالية على القيم، ستجد قيماً تصارع التسامح وتسود ثقافتنا نظرياً وعملياً كمثالات «من استغضب فلم يغضب فهو حمار»، ومثل «ألا لا بجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا». وفي مقولاتنا العامية الكثير من المقولات التي تتنافى مع قيمة التسامح «ولن أذكر شيئاً منها لحال رغبتي في عدم التورط بالأمثلة، فقد تخرج بعض قرائي عن سياق المقالة»، بل وتزدري المتسامح وتعتبره شخصاً ضعيفاً وعاجزاً وليس رجلاً قوياً، كما هي تعجب بالرجل الخشن وتعده نموذجاً حتى وإن كان يفجر في أخلاقه ولغته ويزداد الأمر غرابةً حينما ينجفل ذلك ناحية النماذج القدوة اجتماعياً كالدعاة المشاهير الذين صنعهم الإعلام والعوام مثلاً، ونماذجهم تعج بها كباريهات «تويتر»، وليس بعيداً منهم بعض المثقفين الذين يمارسون الطغيان الثقافي بلغونتهم الفوقية المتنابذة مع قيم التسامح والأخلاق. إذا كان ما يسير حياتنا حقيقةً «عملياً» هي القيم المناقضة للقيم النبيلة التي ندعيها ونعزفها نظرياً ماذا نصنع غير المسايرة والازدواجية والنفاق، ماذا يصنع الإنسان الراقي قيمياً المتمثل دينياً في الأخلاق العالية في مجتمع يكاد يتواضع ويتواطأ على النكوص عن المثل التي يدعيها ناحية القيم الرديئة عند المحك وحال التعامل الفعلي في عالم الواقع. حينما سميت المقالة بهذه العنونة لست أحكي تجديفاً كالسوفسطائيين لأجل الحكي بل أتجه لتوصيف ما أستلهمته في تلافيف تواصلنا وحياتنا، ذلك أن واقعنا يكاد يفرض علينا أن نتعلم الجهل مع العلم ونستوعب القيم الرديئة حتى نستطيع أن نتعايش مع من حولنا حتى لا نظل شاذين بما نتعلمه من قيم عالية لا تعتد بها ثقافتنا ولا تشتملها إلا في فضاءات اللغة والتنظير، إنني أشعر أن كثيراً من الذين أخذوا كفايتهم من القيم والثقافة الراقية يرون أنفسهم مرهقين وهم يجدون الواقع العملي لا يحتمل أو يحترم ما تعلموه، فضلاً عن أن يقابلهم بالترحيب وذلك ما يجعلهم يصابون بمشكلة في الحياة وفي التعاطي مع عامة الطيف التقليدي وفي صراع مع ما تعلموه من الوعي الإيجابي. «الحصاد»: هل تحولنا إلى أمة (لم تقولون ما لا تفعلون) إلى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)، هل انقطعت علاقتنا بالقيم عملياً لنتعبد بها كلامياً، حتى مفهوم القدوة «من يستتبع القول الأخلاقي بالفعل الأخلاقي» قيمياً وأخلاقياً في مجتمعاتنا شارف أن يكون شيئاً من العالم الافتراضي وجزءاً من الموجودات الذهنية، إذا كان الداعية الذي يخوف الناس بالله يفجر ولا يخاف الله حينما لا تراه عيون جمهوره، ويتعامل مع المختلف بوقاحة وهو يهرطق عن الأخلاق، ماذا ننتظر من المجتمع الذي مشيخه، كما المثقف الذي يحتال على قيمه حال تماسه والواقع الفعلي، الفعل الأخلاقي الجيد القليل أجمل من القول الأخلاقي الكثير. * كاتب سعودي. [email protected] abdlahneghemshy@