بعدما دخلت وحدات من «الجيش الحر» مدينتي حلب ودمشق، في تموز (يوليو) 2012، وسبقت ذلك سيطرتها على المعابر الحدودية مع تركيا، كانت تقديرات المراقبين تتحدث عن سيطرة قوات المعارضة على نحو سبعين في المئة من الأراضي السورية، في مقابل سيطرة النظام على الثلاثين في المئة المتبقية. بعد مرور عام كامل لم تتغير هذه النسبة، وإن استعاد النظام بعض المناطق في مقابل خسارته لمناطق جديدة. يبدو أن مقدراته العسكرية لا تتجاوز حد الاحتفاظ بأكثر من هذه النسبة. باستثناء ذلك تغيّر كل شيء تقريباً خلال هذا العام الدموي. فعلى جبهة النظام تحول القصف بالطيران الحربي إلى روتين، وأضيفت إليه الصواريخ البالستية والسلاح الكيماوي وهي كذلك تحولت إلى روتين بفضل خط أوباما الأحمر الشهير. لكن التغيّرات الأهم حصلت في المناطق المحررة من سيطرة النظام. فقد ازداد بروز دور السلفيين الجهاديين المرتبطين بتنظيم «القاعدة» الذي انحصر عمله في هذه المناطق. «جبهة النصرة» التي أعلنت عن نفسها مطلع 2012، ونفذت، في الأشهر التالية، عدداً من العمليات الهجومية بالسيارات المفخخة في مناطق سيطرة النظام، أدرجتها الإدارة الأميركية على قائمة المنظمات الإرهابية في تشرين الثاني 2012. ومع مطلع 2013 ظهرت منظمة «دولة العراق الإسلامية» التي زعم قائدها أبو بكر البغدادي أن «النصرة» جزء من منظمة جامعة أطلق عليها «دولة العراق والشام الإسلامية». تنكر «أبو محمد الجولاني» لهذا الاندماج وأعلن عن ولائه المباشر لأيمن الظواهري، فحدث الانشقاق الكبير بين المنظمتين، وقويت شوكة «الدولة» باضطراد على حساب «الجبهة». ترافقت هذه العملية مع تراجع العمليات الهجومية للمجموعتين ضد مواقع النظام، وانكفائهما إلى «حكم الداخل» في المناطق المحررة، فتأسست «الهيئات الشرعية» في كل مكان كسلطة أمر واقع على المدنيين بديلاً من سلطة النظام المنتهية. وتواترت الأخبار عن انتهاكات خطيرة ترتكبها عناصر الجبهة والدولة والهيئات الشرعية، كفرض قيم متشددة قائمة على التحريم والتكفير والاعتقال والتعذيب وإنزال الحد، إضافة إلى إعدامات ميدانية واغتيالات طاولت ناشطين وقادة عسكريين في مجموعات «الجيش الحر». أما المناطق ذات الغالبية السكانية الكردية في الشمال والشمال الشرقي من البلاد، فشهدت تطورات مشابهة إلى حد كبير، وإن كانت أكثر تعقيداً. فمنذ وقت مبكر من بداية الثورة السلمية بدأ مسلحو حزب الاتحاد الديموقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، بالظهور في تلك المناطق، ب «غض نظر» من أجهزة نظام الأسد، حيث بدأوا بقمع التظاهرات السلمية للكرد ضد نظام الأسد، بالضرب والاعتقال وتسليم بعض الناشطين لأجهزة الأمن، إضافة إلى جبايتهم أتاوات من السكان تحت اسم «التبرعات». وفي خريف 2011 نظموا انتخاباتهم «الشعبية» على مرأى من أجهزة النظام فأقاموا برلمانهم «المنتخب» باسم «مجلس شعب غربي كردستان» الذي شكلوا له ذراعاً عسكرية باسم «قوات الحماية الشعبية» نصبت حواجز تفتيش على مداخل القرى والبلدات والأحياء، وتولت بصورة تدريجية وظائف الدولة. في تموز 2012 كان الحزب الكردستاني قد بسط سيطرته إلى حد كبير على المناطق الكردية، واستكمل بناء «مؤسساته» وأجهزته السلطوية، فانسحب النظام من تلك المناطق طوعاً وتركها في عهدة حليفه القديم، بصورة متزامنة مع دخول وحدات من «الجيش الحر» إلى أحياء في مدينة حلب. أصبحت عاصمة الشمال، منذ تلك اللحظة، موزعة بين «حكومات» ثلاث: مناطق خاضعة لقوات الأسد، ومناطق خاضعة لمسلحي «الجيش الحر»، وأخرى خاضعة ل «قوات الحماية الشعبية» التابعة للفرع السوري للحزب الكردستاني. بقيت الأحياء ذات الغالبية الكردية هذه، لفترة طويلة، في منأى من الصراع العسكري بين قوات الأسد وقوات «الحر»، باستثناء معارك صغيرة لبسط النفوذ خاضها مقاتلو الحماية الشعبية ضد شبيحة من عشائر عربية و «ماردنلية» في حيي الشيخ مقصود والأشرفية. وتجنب مسلحو «الحر» والكردستاني، عموماً، أي احتكاك ليحافظ كل منهما على سيطرته على مناطقه. لكن الوضع لن يستمر على هذا الستاتيكو إلى النهاية. فمن جهة أولى، قصف النظام مناطق سيطرة الكردستاني بضع مرات، بسبب تسهيلات مرور قدمها الأخير في بعض الحالات لقوات «الجيش الحر» وهي في طريقها إلى مهاجمة أهداف عسكرية للنظام. وكان لافتاً ذلك الهجوم الكيماوي على حي الشيخ مقصود، بعد أيام على إعلان عبدالله أوجلان إطلاق عملية سلام شاملة مع الحكومة التركية المناوئة لنظام الأسد. أدى هذا الهجوم إلى إفراغ الحيين الكرديين من سكانهما إلى حد كبير، فملأ مقاتلو «الجيش الحر» الفراغ، وانتهى الوجود المسلح للكردستاني في مدينة حلب. هكذا ركز الحزب جهوده على استكمال بسط سيطرته على الأرياف الكردية الممتدة من عفرين غرباً إلى الحسكة شرقاً. فكانت جولات من المعارك، في رأس العين وريف حلب الشمالي، بين قواته وكتائب من «الجيش الحر»، إضافة إلى المنظمات الجهادية (الجبهة والدولة) التي دخلت على خط المعارك مع قوات الكردستاني قبل شهور. إذاً، يمكننا تلخيص خريطة القوى القائمة اليوم على المستوى الوطني، بصورة مشابهة للوضع الذي كان قائماً في مدينة حلب منذ صيف 2012: 1) منطقة حمراء: تسيطر عليها قوات النظام بتواجد عسكري دائم. 2) منطقة خضراء: تسيطر عليها قوات «الجيش الحر» والمجموعات الجهادية الخارجة عن سيطرته بصورة متداخلة جغرافياً. 3) منطقة صفراء: خاضعة لقوات حزب الاتحاد الديموقراطي، الفرع السوري للكردستاني. وبالنظر إلى الممارسات السلطوية لمسلحي «الجبهة» و «الدولة» و «الهيئات الشرعية» و «الحماية الشعبية» وبعض كتائب «الجيش الحر»، يبدو كأننا أمام مشهد تشظى فيه نظام الأسد إلى ديكتاتوريات تنتشر على كامل مساحة سورية. وكما قامت ثورة 15 آذار (مارس) السلمية ضد نظام الأسد، هناك «ثورات» شعبية سلمية ضد انتهاكات المسلحين في المنطقتين الخضراء والصفراء. المنطقة الحمراء وحدها ما زالت خانعة لسلطة قوات الأسد والميليشيات المتحالفة معها. في هذا الإطار، طرح حزب الاتحاد الديموقراطي مشروعه المسمى «الإدارة الذاتية»، ومنظمة دولة العراق الإسلامية مشروع الدولة الإسلامية. وتدور حرب أهلية صغيرة اليوم بين «الدولتين» في الشمال.