رغم صخب المرور وازدحام الطريق وأبواق السيارات وصياح الباعة الجوالين، إلا أن أصوات دقات قلوب المصريين تكاد تسمع متسارعة متلاحقة متواترة. التصعيد على أشده، والتجييش في قمته، والصراع في أوجه، والأعصاب قاب قوسين أو أدنى من الانفجار. يصرخ أحدهم منشداً على منصة «رابعة العدوية» حيث اعتصام أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي: «سأفجر فيكم غضبي، لن أخشاكم لن أرجع»، والجماهير المحتشدة تتمايل بعصبية شديدة لفرط رومانسية الكلمات الحالمة. ويتم تأجيج المشاعر وإلهاب الحماسة بأحاديث وخطب وكلمات عن حلاوة الشهادة وجمال الموت في سبيل الله وروعة الدماء التي تسيل دعماً للشرعية وعبقرية الأرواح التي تزهق تعضيداً للشريعة، بعد فاصل غنائي لأغنية «رابعة» السورية الشهيرة «قولوا للعالم مصر إسلامية لا علمانية». في الوقت نفسه، يصيح أحدهم في استوديو تلفزيوني سياسي تحليلي: «خائف من إرهاب جماعة باعت ضميرها وبلدها في مقابل أهداف لا علاقة لها بالوطن؟ خائف على حياة زوجتك وأولادك ومستقبلهم؟ حزين على قتل الجنود في سيناء يومياً؟ مرعوب من قنابل الإرهاب في المدن هنا وهناك؟ خائف من عنف أنصار المعزول في الشارع؟ انزل واهتف بأعلى الصوت: تسقط الجماعة الخائنة». هنا، يخرج البرنامج لفاصل غنائي سريع تصدح فيه الراحلة نجاح سلام منشدة: «يا أغلى اسم في الوجود يا مصر». وحين تصل إلى مقطع: «تفوت عليك المحن ويمر بيك الزمان وأنت أعلى وطن» تعود الكاميرا إلى الاستوديو ليستكمل المذيع وضيفه التحليل «محنة حكم الجماعة ليست كأي محنة. إنها محنة الإرهاب والقتل والعنف». محنة مصر الحالية فريدة من نوعها، خطيرة في محتواها، متفردة في أطرافها، وهو التفرد الذي نزع عنه كل الأقنعة ومحسنات الألفاظ ومجملات الصراع وبهارات الديبلوماسية. إنها محنة فريق من المصريين ومعهم الجيش والشرطة والقضاء والإعلام في مواجهة فريق آخر من المصريين ومعهم متعاطفون ومحبون للجماعة من دول مجاورة وداعمون ومعضدون لبقاء حكم المرشد من دول شقيقة وباحثون عن مصالح وكيالون بمكيالين من دول غربية. ورغم أن كلمات وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي التي أقامت الدنيا ولن تقعدها أول من أمس خلت من كلمة «جماعة» أو «الإخوان» أو «المسلمين» ولم تحو سوى كلمات واضحة ومحددة عن «إرهاب» و «عنف»، إلا أن الجماعة وحلفاءها اعتبروا كلماته موجهة إليهم. ورغم أن الجميع يعلم علم اليقين أن الجيش بات في مواجهة صريحة مع الجماعة وحلفائها، إلا أنها ظلت أشبه بمحطة «المطار السري» الذي يعرفه الجميع ويعتبرونه من معالم الطريق لكنه يظل في نهاية الأمر مطاراً سرياً. ومع هذه المكاشفة وتعامل قيادات ومشايخ «رابعة» مع دعوة الفريق السيسي المصريين إلى النزول إلى الشوارع والميادين اليوم لتفويض لقوات المسلحة للتعامل مع الإرهاب والعنف باعتبارها دعوة موجهة ضدهم عملاً بالمثل القائل «اللي على رأسه بطحة يحسس عليها»، لجأت قيادات «الشرعية والشريعة» و «الشهادة» و «سيسي يا سيسي مرسي هو رئيسي» إلى تبكير موعد «جمعة الفرقان» التي كان مقرراً لها اليوم الجمعة لتبدأ أمس في إجراء جهادي احترازي. وتفجرت جهود التغريد وأعمال التدوين وتأجيجات الحشد والتجييش لإضافة المزيد من «مشاريع الشهداء» المرابطين في مربع «رابعة العدوية» رغم التأكيدات المسبقة أن ملايين لا أول لها أو آخر معتصمة في المربع. وأخذت صفحات «حرائر رابعة» و «رابعة هيروز» (أبطال رابعة) و «نبض رابعة» وغيرها تشد من أزر المعتصمين وذلك عبر توليفة مختارة من خيالات «انشقاقات في الجيش» و «تعاطفات في الشرطة» و «احتمال انضمام دكتور عبدالمنعم أبو الفتوح إلى منصة رابعة» و «انضمام ملايين المصريين إلى رابعة وميادين الشرعية والشريعة لفضح العلمانيين والصليبيين والكفار» وتأكيد أن «نصرة الإسلام باتت قريبة على أيادي جند الله في رابعة»، في إشارة واضحة إلى بطاقة «التفويض الإلهي» التي تتداولها الجماعة وحلفائها منذ ما يزيد على عام. ومن تفويض ديني تحتكره جماعة وتغسل به أدمغة البسطاء إلى تفويض عسكري طلبه الفريق السيسي في سابقة، أشعل التفويض الشعبي أو العسكري المنشود نيران الحماسة ومشاعر الحب وعواطف العشق لدى ملايين من المصريين الذين تعتريهم ما يمكن تسميته ب «يوفوريا السيسي» أو «نشوة السيسي»، وهي نشوة تعيد إلى الأذهان ولع المصريين بالراحل جمال عبدالناصر. هذه النشوة دفعت من كان يخطط لقضاء عطلة نهاية أسبوع خارج القاهرة أو على أريكة غرفة جلوسه أو أعلى سطح بيته إلى تلبية النداء لسببين: حباً في السيسي، ورغبة في البقاء بعدما وصلت رسالة استحالة التعايش السلمي بين المصريين و «الإخوان» إلى كثيرين. إلا أن آخرين من بين الفريق نفسه الرافض لحكم المرشد والجماعة والمناهض لعودة مرسي والمندد بالخلطة السحرية للدين والسياسة اعتراهم قلق رهيب مشوب بخوف عظيم. استشعر بعضهم في الدعوة استهلالاً لاقتتال شعبي ومقدمة لحرب أهلية وتمهيداً لمزيد من الفرقة الوطنية. لكن حدة الاستقطاب ومغبة التشكك ومخاطر الارتعاش ستدفع جانباً منهم إما إلى الانضمام إلى جموع المفوضين، أوإعادة إحياء لمنظومة «عصر الليمون» (التي ابتدعت في جولة الإعادة بين مرسي وأحمد شفيق وعصر بعضهم ليموناً لدرء شفيق باختيار مرسي)، أو الالتزام بالأريكة لمتابعة أحداث معسكري التفويض الإلهي في «رابعة» و «العسكري» خارجه. وبعيداً من المتحفظين، يشهد اليوم خليطاً من صيغ التفويض العسكري الإلكتروني والورقي والشفهي «أفوض أنا المواطن المصري القوات المسلحة المصرية والشرطة بمواجهة الإرهاب والعنف في جمهورية مصر العربية» على خلفية أوبريت «تسلم يا جيش بلادي» الصادح من كل محطات الإذاعة وقنوات التلفزيون باستثناء «الجزيرة مباشر» وقريناتها اللاتي تنقلن من مربع «التفويض الديني» في «رابعة»، لا سيما مقطع «تسلم يالي شايلها، وقلت المايلة لازم تعدلها، بعلو الصوت... قال دي تنقطع إيدينا لو تمس المصريين، تسلم الأيادي»، ولا تتداخل معها سوى أنشودة «رابعة» الشامية اللهجة «مصر إسلامية لا علمانية»، لكن يظل الأعلى صوتاً والأعتى تفويضاً هو ترديد الملايين «فوضت امري إلى الله».