لنتفق بداية على أمر: إنّ السيد مرسي، بالمعنى التاريخي الدقيق، كان يحمل بذور وإمكانات سقوطه التاريخي منذ لحظة صعوده إلى سدة الباب العالي. نضعُ هذه النقطة في إطار أعمّ: إنّ مشروع الإسلام السياسي هو، بالأصل، مشروع ضدي، يقف في مقابل حركة التاريخ وكردّ على فشل استجابته لما يطرحه الغرب من أسئلة حداثية، وهي أسئلةٌ صعبة، حقيقةً، على إمكاناته الذهنية القروسطية. إنه إذْ لم يستطع، ولن يستطيع، الإجابة عن الأسئلة الحداثية (ما دام غارقاً في قروسطيته)، فإنه يقدم نفسه على الدوام كخيار ضدي أصولي بديل عن الغرب. فهو، ومن هذه الناحية، لطالما كان يتلقى الصفعات، الواحدة تلو الأخرى، رداً على ضديته. وبكلمات مختصرة، لقد كان السقوط وبالتالي الفشل، السمة الأبرز لكل مشروعيته اللاتاريخية (من هنا الفرق بين سقوط الإسلاميين «المتأصل» بالمعنى التاريخي والحداثي، وبين سقوطهم سلطوياً وسط صراع «ابتلاعي» على السلطة). أوليفيه روا كان من أبرز من تحدث عن فشل الإسلام السياسي منذ أكثر من عقدين عام 1992، أي في الأيام التي بدأ فيها الصراع بين الإسلاميين الجزائريين وبين نظامهم العسكري وذلك بعد إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية 1991. وقد كان كلا الطرفين يسجلان فشلاً ذريعاً: النظام الجزائري في طريقة إقصائه وشكل مواجهته جبهةَ الإنقاذ الإسلامية، والإسلاميون في طريقة تعاطيهم «الأداتية» والبراغماتية مع صناديق الاقتراع، حيث شاءت الأقدار أنْ تُقرأ، إسلاموياً، لا بشروط الصناديق الحداثية هي، بل وفق الشروط الإسلاموية، وكأفضل الوسائل التكنولوجية في السيطرة على المناخ العام، من غير إيمان أصلاً بالتأسيس الحداثي-السياسي لثقافة الصناديق. هكذا غدت الصورة: فشل إسلاموي، يُقابل بفشل سياسي وعسكري للنظام. ليس هذا الكلام لكي نقول أنّ مواجهاتٍ عسكريةً ستقوم حتماً، في الحالة المصرية، بين الطرفين، الإخواني والعسكري، أو أنّ حرباً أهلية تلوح بالأفق، بل للتأكيد على التقاطع الكبير بين ما يحدث هنا وما يحدث هناك في البيئة العربية (مع عدم استبعاد احتمال المواجهات العسكرية إذا ما استمر الاحتقان السياسي داخل الشارع وداخل النخب، ومن ضمنها العسكرية، من جهة، وإذا ما رجع الإخوان إلى استخدام إحدى الأدوات المهمة في تأسيسهم، أي أنْ يُعاودوا التحول إلى «مشاريع شهادة» من جهة ثانية). فالإسلاميون المصريون لم يستفيدوا من كل التجارب التي سبقتهم، ولا المؤسسة العسكرية في طريقة تعاطيها معهم. وأكثر من ذلك، ما أحدثته المؤسسة العسكرية في مصر، ليس إسقاط إخوان مرسي، بالمعنى الدقيق، بل أخرت السقوط الذي كان وشيكاً، وإضافة جرعات زائدة لهم للمطالبة بأحقيّة السلطة. هكذا ليس غريباً أنْ يُوضع المصريون أمام مفارقة مذهلة: الإخوان هم من يؤكدون على الشرعية الديموقراطية الانتخابية، في حين أنّ معارضيهم من الليبراليين هم من يخرجون على الشرعية الديموقراطية! والأهمّ أنّ هذه الشرعية لن تُعاد إلى أحضان الإخوان إلا بواسطة ما أعلنوه مع حلفائهم عن القيام ب «الثورة الإسلامية ضد الانقلاب على الشرعية لتكون ثورة التصحيح ضد النظام البائد» (الحياة، 5 يوليو/تموز، 2013). لا شك، الإخوان وحلفاؤهم هم من يتحمل مسؤولية عواقب هذا الإعلان؛ لكن بنفس الوقت لا يجب إغفال مسؤولية الجيش وطريقة تعاطي المعارضة مع مرسي وإخوانه الذين خلقوا «أرضية خصبة» للإخوان كي يخرجوا بإعلانهم بهذا. الآنْ ستُنال الشرعية الديموقراطية بواسطة ثورة إسلامية!! من المؤسف جداً هذه الحال التي عاود المصريون وضع أنفسهم أمامها. لم يكن «الصعود الإخواني» بالأصل، ممثلاً بمرسي، سوى الترجمة الفعلية لما تدرّ به مقبرة دفن السياسة وذلك في ظل مناخ ثقافي إسلاموي مفتقر إلى أبسط مفردات الحداثة الغربية والتصالح تاريخياً معها. أليس هذا هو حال معظم الحركات الإسلامية المسيّسة والقومية (سواء الناصرية منها أو البعثية أو أشباههما)، حيث يتبارى كلٌّ منهم على عداء الغرب والحداثة؟ إنّ هذا العداء هو بالضبط أحد الأسباب الرئيسية في تحوله من عداء ضد الغرب إلى عداء ضد الدولة والذات، وهو الأمر الذي يؤدي، كما العادة، لأنْ تُعيد به البيئة العربية إنتاج ثقافتها: إما العسكر وإما الإسلاميون! ومن جهة ثانية، يمكن للمرء أنْ يلاحظ على مدار سنة، من خلال قراءة سريعة لسلوك الرئيس الإخواني، أنّ معظم الحركات والخطوات التي كان يتقدم بها كانت بمثابة مسامير يدقّها في نعشه السلطوي. فهو قد صعد، أساساً، في ظل استقطاب حاد داخل المجتمع المصري، ولم ينجح تالياً في استيعابه أو حتى التخفيف من حدته. لا بل على العكس، فقد مثل وجوده أحدَ أبرز وجوه الاستقطاب والمنافسة على ابتلاع مصر. ولنتذكر، مثلاً، سلوك الإخوان في تعاطيهم مع الأقباط في مصر قبل وأثناء الحملات الانتخابية الرئاسية. فهم لم يتعبوا من كيل الاتهامات ضد المسيحيين، ليس أقلها أنهم من أنصار النظام السابق، لكنْ ما إنْ احتدّت المنافسة بين مرسي وأحمد شفيق حتى بدأت التصريحات المرسيّة بأنّ الأقباط هم شركاء الوطن وبأنّ «فئات الشعب المصري كلها في قلبي وعيني». لكن، لم يخرج هذا الإعلان إلا لأنّ الإخوان شعروا بأنّ حاجتهم للأقباط أكثر من حاجة الأقباط لهم. وهكذا ليظهر بعد فوز مرسي، وعلى مدار سنة، أنّ قلب مرسي وعينه قد بقيا صامتين تجاه كل الاعتداءات المتعصبة التي كانت تصدر بين الحين والآخر ضد المسيحيين والليبراليين؛ ليتحول مرسي، مُنساقاً بواسطة «إخوانه»، لا إلى رئيس كل فئات المصريين، بل إلى طرف «ضدي» تماماً يحاول استكمال عملية ابتلاع مصر وحشد التظاهرات ذات الطابع الإسلاموي في ظل القوة الرمزية لشعار «الشريعة والشرعية»؛ وهو الأمر الذي كرّس الاستقطاب، مُحوّلاً أكثر من نصف الشعب المصري، من ضمنهم المسيحيين والليبراليين، إلى أعداء له. وإذا كان من الصعب في هذا السياق حصر قائمة فشل مرسي في التعاطي مع الأزمات الداخلية والخارجية، فإنه ليس هناك شك بأنّ فشله في كلّ خطوة كان يخطوها كان يُؤذن، عاجلاً أو آجلاً، بالنهاية الحتمية له (بالمعنى السلطوي). كان يمكن للمصريين أنْ يفرحوا بعد التظاهرات المليونية الضخمة ب «تأبين» مشاريع، هي ميّتة أصلاً. لكن ما حدث، وما يحدث الآن، ليس مثيراً للقلق فحسب، بل إنه إيذان بفتح جبهات أخرى، وبالتالي ليتأجل مرة أخرى بناء الدولة والدخول في الحداثة والتاريخ؛ ذلك أنّ المصريين سيكونون مشغولين في الصراعات بين بعضهم البعض! * كاتب سوري