خانه وطنه، فلم يتحمّل الممثل السوري نضال سيجري (48 سنة) الفاجعة. لم يتحمّل الممثل الفذّ الساحر المعجون بالأمل والفرح، مشهدَ الموت المتكرّر. بُحّ صوته وهو ينادي أبناء وطنه لإنقاذ «أمنا العظيمة سورية» والاتحاد ضد التقاتل وهدم البلاد، لكن النداء راح هباء منثوراً... حلم في العيد بأن يبدأ جميع السوريين بإعادة البناء، وهدّد إن لم تخرج بلاده من وجعها سيذهب إلى الموت، إلى حيث يرقد مئات السوريين الأبرياء الذين أرْدَتْهم المدافع والمحاصصات السياسية والجشع والفساد وتقسيم البلاد. ثلاث سنوات من المعاناة مع السرطان، الذي سرق حنجرته الهدّارة القوية الصارخة في وجه التقسيم والتهديم وحرق البلاد، لم ييأس فيها ابن اللاذقية وصديق البحر، لكن ازدحام الموت في بلاده أتعبه. عدم استجابة أهل الأرض لنداءاته بالمسامحة والسلام والتحاور وترك السلاح أدخله في نفق العتمة، التي آثرها على شمس الحرب والخطف والاغتصاب والجوع والتشرّد. الصديق الصدوق الوفيّ وصاحب القلب الأبيض، لم يرضَ بترك أبناء بلاده يذهبون قهراً إلى الموت وحدهم ويُتركون في العراء. أراد الكوميدي الذي يصنع من المرارة ضحكة ومن الألم ابتسامة ومن المآسي حكاية درامية فكاهية، مرافقتهم إلى المتاهة، إلى اللاعودة، علّه يرفّه عنهم هناك، حيث ذهبواً قسراً من دون أن يأخذ أحد برأيهم. من سخرية القدر أن يضرب الموت موعده مع «تشارلي شابلن العرب» في اليوم الثاني من شهر رمضان، الذي أطلّ عليهم فيه منذ سنتين في مسلسل «ضيعة ضايعة» برفقة باسم ياخور، ليحوّل همومهم إلى قهقهات لا تنتهي. من المؤكد أن صوت «أسعد» الهادر والمبحوح لن يغيب عن آذان محبيه. ومن المؤكد أن تميّزه في أدواره ودقتّه في تجسيدها وجهده المضاعف في صناعة شخصياته الفذّة والقوية والفريدة، لم ترحل معه، بل هي خالدة. فالفنان المبدع الذي أضحك الناس وسلاّهم وتناول همومهم ومعاناتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أعماله، لا يليق بفنّه الموت، بل هو خالد، تذهب روح صاحبه إلى خالقها ويفنى جسده، لكن إبداعاته تبقى في ذاكرتنا الجماعية وفي أرشيفنا الفني لينهل منها من سيأتي بعده. بكاه جمهور واسع ومتنوّع من مختلف الدول العربية، وغصّت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بالجمل الآسفة لرحيل فنان مبدع وفريد من نوعه، وبعبارات ملؤها الحب والاحترام والفقدان، سواء من الفنانين أو من المشاهدين وأصدقاء المسرح. اللاذقية الغافية على خدّ البحر، الذي كان صديق نضال سيجري الصدوق، ودّعته أمس وداع الأبطال الأوفياء الغيورين على مصلحة بلادهم. بكاه البحر كاتمُ أسراره، وحاراتُ المدينة التي ترعرع فيها، ومسرحُها القومي الذي شهد أولى خطواته المتميّزة، وأصدقاؤه ومحبوه وولداه وليام (8 سنوات) وآدم (6 سنوات). هناك في أزقة اللاذقية، التي تعلّم فيها كرة القدم، وحلم بأن يكون قبطاناً يسافر ويكتشف الحضارات، وحوّل الملعب إلى خشبة خضراء لصالح المسرح الطلائعي، ووري في الثرى. تتلمذ سيجري في عاصمة الأمويين على يد المسرحي السوري فواز الساجر، وأدرك باكراً أن السفر خارج سورية لا يليق به، فقرر أن يأتي بكل العالم إلى خشبته ليلبس الشخصية التي يريد وكما يريد تركيبها، خارج الزمان والمكان والبروتوكولات المعهودة. تخرج من «المعهد العالي للفنون المسرحية» في العام 1991. وترك رصيداً كبيراً من الأعمال التلفزيونية قاربَ المئة مسلسل، منها «الشريد»، و«الفوارس»، و«سيرة آل الجلالي»، و«أبناء القهر»، و«أبيض أبيض»، و«بقعة ضوء»، و«غزلان في غابة الذئاب»، و«زمن العار»، و «شركاء يتقاسمون الخراب»... لكن أضواء التلفزيون لم تسرقه، وبقي وفياً لرائحة الخشبة وصوتها وتأثيرها في نفسه، فأبدع في أدواره في مسرحيات مثل «كاليغولا»، «نور العيون»، «ميديا وجيسون»، «أواكس»، «سفر برلك»، «بحيرة البجع»، و «صدى»... وكان آخرها «حمَّام بغدادي» و «أرامل على البسيكلات» لجواد الأسدي. وخاض تجربة إخراج الأفلام مع «طعم الليمون»، قدم فيه حكاية شيّقة عن لاجئين جولانيين وفلسطينيين في مخيم جرمانا في ريف دمشق.