يعود الفضل، فضل الخراب لا غير، إلى حزب العمّال الكردستانيّ إذْ أدخل نظريّة الكفاح المسلّح والمقاومة الشعبيّة، والتي يؤسّسها ويحتكرها حزبٌ واحد فقط، إلى المناطق الكرديّة السوريّة. من العدّة الفلسفيّة المهترئة لنمط كفاحيّ توحيديّ قسريّ كهذا، وجودُ قائد رمزٍ (عبدالله أوجلان) تترافق صوره مع تصوّر خياليّ عن أجزاء كردستان المقسّمة، التي يناضل الحزب لتحريرها وتوحيدها وخلاصها من الظلم. الفكرة التي تدعم توجّهاً كهذا لا تعود تأسيساً قومياً وحسب، بل تدرج التأسيس المطلوب مع نمط حكم وقيادة خاصَّيْن. ف «العمّال» حزبٌ كردستانيّ، والكرد السوريون جزءٌ تابع ومكمِّل لتحقيق أهداف الحزب الوحدوية الاشتراكية، وهذه الأخيرة كانت القناع الذي أوصل السوريين إلى حقيقة مدمِّرة: لا عربَ بل عربان، ولا وحدة بل نضالٌ أبديّ من أجل الوحدة، ولا اشتراكية، بل أغانٍ وصحفٌ تعلّم الشعب فوائد الاشتراكية! خِصال «حزب العمال الكردستانيّ»، كحزبٍ طليعيّ، ترفعه فوق مستوى تفكير الكرد السوريين وتطلعاتهم، وتجعله الحزب القائد على شبه غير بعيد بحزب البعث الذي قاد مسيرة الشعب والمجتمع السوريين، على مدى نصف قرن. أفضل قيادة! وللحزب هذا فروع كردستانية، منها الفرع السوريّ، حزب الاتحاد الديموقراطيّ (PYD). القوة الوحيدة والأساسية التي بموجبها يرشد الحزب أبناء الشعب هي قوة السلاح. وبموجب هذه القوة، ينشئ «الاتحاد الديموقراطي» مجلس شعب غربي كردستان، وشبيبة غربي كردستان، ودار المرأة الكردية، ومحاكم الشعب، وقوات الحماية الشعبية. جميع هذه التنظيمات الكفاحية تابعةٌ لرأسٍ قائدٍ وأوامرَ عليا. لا الرأس ولا الأوامر يمكن أن يمسّها أحد. لقد كان غريباً ومفاجئاً أن يفرض الحزب المناضل، عبر وجهه السوريّ الأخير، حواجزَ أمنيّة على مداخل المدن الكردية، ويستدرج الناس إلى حمل السلاح عبر بثّ الخوف، واختلاق الأزمات واحدة تلو أخرى. في هذه الظروف، استولى مسلّحو الاتحاد الديموقراطيّ، سلميّاً، على مخافر ومفارز تابعة للمخابرات السوريّة، ورفعوا فوقها أعلام الحزب وصور زعيم الأمة الكرديّة أوجلان. وفي الوقت الذي كان فيه السوريون يتعرضون لذبح يوميّ، كان على كرد سورية، مُكرَهين، شدُّ الصفوف وانتظار أوامر نضالية معتمة من جبل قنديل. الحقيقة المكبوتة بسبب سلوك العمال الكردستانيّ أنّ الكرد السوريين، ممّن لا يجدون ضالتهم لدى «قوات الحماية الشعبية»، ويفضلون العمل السلمي على العمل العسكري، يجهلون من أين تأتي هذه الأوامر، ومن هم أولئك الساهرون على أمنهم وحمايتهم، هؤلاء اللامرئيون الذين تظهر نتائج أعمالهم عبر الاستيلاء بالقوة على المعابر الحدودية، والتحكم بتوزيع الغاز والوقود والمساعدات الإغاثية، وفرض أوامر تسمح للحزب وحده دون سواه بأن يحمل السلاح. يحدث كل هذا، ولا يجرؤ أحد أن يفكر، إن تجرأ على مجرَّد التفكير، أنّ هذه الطريقة الشمولية المستبدة ليست سوى نموذج كرديّ فرعيّ عن النموذج السوريّ الأصل. على هذا النحو، يحلّ حزب العمال الكردستاني الصاعد محلّ حزب البعث الساقط، فتتبدّل الأسماء وتبقى المسالك البدائية والعنفيّة هي هي ذاتها، ويستبدل الصنم العربيّ القوميّ النضاليّ بصنم كرديّ قوميّ نضاليّ. طريقة نظر الحزب النضالية إلى الشعب «الجاهل» أن الأخير لا يدرك مصلحته، وبناء على ذلك، من واجب الحزب أن يقود الشعب الجاهل إلى مستقبل أفضل. ثمة زعيم مقدس، هو عبدالله أوجلان، وله كتب وتحليلات ونفاذ بصيرة، على الشبيبة الكردية حفظها والتمعن فيها، ولأنه كذلك، لا تجوز مناقشته ولا إبداء النفور من آرائه، ناهيك عن التفكير برفض نهجه رفضاً كلياً وفي شكل علنيّ. فالقائد، وصورته تسبقه، هو شرفُ الشعب، عنوان هيبته وقوته. إنْ جرؤ أحد، أحد ما من أبناء الشعب، على قول يخالف نظرية الحزب، كانت قوات الحماية الشعبية في وجهه. فهو في هذا الحالة عرضة للخطف أو الاعتقال، والمحاكمة، وفرض غرامات تأديبية. وعلى الناقد الجاهل، هذا الواحد من أبناء الشعب، أن يعتذر عما بدر منه خطأً في التقدير تجاه زعيمه وتجاه الحزب الساهر المناضل، حتى يفرج عنه بعد أن يعيده الخوفُ، ولا شيء آخر، إلى جادّة الصواب! غير أنّ الشبيه الأقرب الى حزب الاتحاد الديموقراطيّ الكرديّ السوريّ هو حزب الله اللبناني- الإيراني. فكلاهما مقاومٌ، محتكِرُ عنفٍ ومصدَرُه وميزانُه وسيُّده، تتجاوز أهدافُه أرضَ نشوئه وإقامته، فيمكن مقاومته أن تتنقّل من بلد إلى آخر، وتتجاوز الحدود. ذلك أنّ المقاومة، على هذا النحو الهوائيّ السامي الرفيع، هي الصفة التي على أساسها يتم التفاضل والمقارنة. إنها المعيار الوحيد، ومن يقف خارج مسطرة الحزب، يتلقى ضربات تقويمية تعيده إلى «الصراط المستقيم». وما حدث في 27 و28 حزيران (يونيو) الماضي من جرائم قتلٍ وترويع لأهالي عامودا، تلته حملة اعتقالات شنيعة، ليس سوى نموذج وضيع من نماذج النضال المجرم والتافه. * كاتب سوري