تعودنا في المجتمع الليبي، وتعلَّمنا من أجدادنا وآبائنا وعُرْفنا القبلي الأصيل، ألاّ نقبل العِوَض، ومن يقبله أو ما كان يسمى ب «الخلف» يؤخذ عنه أنه أخذ أو استلم عوضاً عن حاجته، وهذا في عرفنا الاجتماعي يرقى إلى مستوى العار، ودائماً الرد يكون «العوض على الله وحده». وحتى على المستوى الأكبر المتعلق بحياة الإنسان نفسها، وقريباً جداً، وحتى في هذه الأيام، عندما ينتج عن حادث سير وفاة إنسان ويجلسون من أجل عقد الصلح ليقدم للجهات الرسمية للإفراج عن مرتكب الخطأ المروري المتسبب في الوفاة، فإننا نجد كثيرين من أهل الضحية لا يقبلون الدية ويقولون: «ولدنا لا يعوض حتى بمال قارون»، ويوقعون على الصلح. حدث هذا، وكم كان رائعاً، عندما أصر بعض أهالي شهداء مجزرة بوسليم على رفض استلام التعويض الذي أقرته لهم سلطات نظام القذافي، فكان رفضهم مبنياً على شهامة وموقف مستخلص من تلك العادات والتقاليد الليبية الأصيلة، بل إن ديننا أيضًا ينص على ذلك. هذا التوجه الاجتماعي البديع ليس له علاقة بالفقر أو الغنى، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن من يمتنع عن أخذ العوض يكون غنيّاً أو من يقبله يكون فقيراً، فأنا أعرف كثيراً من الأسر الفقيرة التي تحتاج إلى القليل من المال، وترفض الكثير من العوض رغم حاجتها له، والأمر برمته مرتبط بمبادئ وخلق لها معان إنسانية واجتماعية عظيمة وارتباط إيماني قوي بالمولى عز وجل. أين نحن مما يجري هذه الأيام، وتتناقله القنوات الفضائية ومواقع الأخبار ويتحدث عنه الكثيرون عمن سجنوا أو هاجروا، أو كما يقولون عن أنفسهم إنهم ناضلوا ضد الظلم والاستبداد، والبقية يرغبون في أن تعوضهم الدولة. هل تحول النضال إلى عمل وجب أن يستلم عنه المناضل أجراً؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الفارق بينه وبين المرتزقة الذين يتم الاتفاق معهم منذ البداية على أجر شهري أو مكافأة في حال الفوز وتحقيق المهمة، أو الاتفاق على تعويض مالي يدفع لعائلته في حال وفاته. فما هو الفارق إذا أصر المناضل على أجر وتعويض مقابل نضاله؟ لا فرق، هنا يتساوى المناضل بالمرتزقة. صحيح أن المرتزقة لا يمكنهم أن يتحولوا إلى مناضلين، لأن عملهم مادي صِرف، لكن ثبت أن المناضل يمكن أن يتحول إلى مرتزق عندما ينتهي النضال ويرى الحياة بمنظور المتعة ودور المال فيها، لكن من دون تعميم. ما بالنا اليوم نشهد تكالباً على الأموال منذ ثورة فبراير (في ليبيا) وبعد الانتصار الذي أبهر العالم، فقد ظهر علينا الجشع والتكالب، بل التزوير والسرقة والتلاعب بالأسماء للحصول على أكبر قدر من الأموال والمكافآت، وتكرر ذلك أيضاً في الاستغلال المقيت من قبل بعض المصابين في حروب التحرير الذين تحايلوا على مصاريف علاجهم. والأرقام المصروفة تجعلنا نقول إن القلة هي العفيفة، والأكثرية هي التي باعت نضالها وتحولت إلى مرتزقة، أقولها من دون أي خجل أو مواربة، فلا فارق بينهم «مادياً» وبين مرتزقة القذافي . نعم كانوا مثلاً رائعاً في نضالهم، لكنهم تحولوا بعد التحرير إلى مرتزقة، أما جنود القذافي ومتطوعوه فكانوا مرتزقة، وبعد التحرير أصبحوا في المسار نفسه. وتكثر الآن الأحاديث حول التعويضات النضالية الأخرى، كما يسمونها، وتحولت من مطالب إلى أسس وقواعد ومعايير وموازنات ترصد لصرف هذه التعويضات. ألا يكفي أن المولى عز وجل نصركم بهذه الثورة الشعبية المباركة وتخلصتم من الطاغية المستبد وأعوانه، أم أنكم ترغبون في أن يدفع لكم الشعب تعويضات وتدخلون في دائرة المرتزقة؟ أحذر من قيام الحكومة بصرف هذه التعويضات أو إصدار قرارات بشأنها؛ لأنها أولاً من الناحية الاجتماعية ستخلق فئات جديدة لديها مال بينما يزداد المواطن العادي البسيط فقراً، كما أنها أيضا ستستنزف من أموال ليبيا مبالغ كبيرة، وستحدث فيها ألاعيب وتزوير، والأهم من هذا كله أنها ستجعل أعداد المرتزقة في زيادة، ما سيهدد الأمن والسلم الاجتماعي. فهل للحرية ثمن، وهل للنضال ثمن، وما هي قيمته؟ عجيب أمر بلادي وناسها، أفيقوا فإن ما تتحصّلون عليه من مال تعويضي هو نصيب الفقراء والبسطاء من أجل رفع مستوى حياتهم الاجتماعية. فلا للتعويض عن النضال، لا لتحويل المناضلين إلى مرتزقة، فلنحمهم من إغواءات المال والشيطان.