«العنف لا يولد إلا العنف» و»العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم» و»العيب على من بدأ بالعنف لأنه لن يلاقي إلا العنف». ليست تلك عبارات أو مجرد أمثال شعبية تحتمل الصواب والخطأ، لكنها محور حوارات بين الشباب المصري وبعضهم بعضاً، ليس على سبيل النقاش، ولكن من أجل التوكيد. ميول العنف لدى الكثيرين من شباب مصر ليس وليد الأمس، وليس نتاج حكم الإخوان الطائفي المحرض، وليس ناتجاً عن أفلام العنف التي يشهدونها، ولا محصلة لألعاب الكمبيوتر المصنفة «عنيفة» فقط، لكنها محصلات لبيئة داعمة للعنف، إن لم يكن بالتحريض، فبالمباركة وغض الطرف وغياب البدائل السلمية. سلمية الحلول والتعقل في التعامل وهدوء ردود الفعل باتت كلها من العملات النادرة. ولأن العنف لا يولد إلا العنف فعلياً، فإن تجاهل الدولة المصرية لانتفاختها الشبابية على مدى عقود طويلة كان عنفاً سياسياً واقتصادياً مارسته الأقلية القوية ضد الأغلبية الضعيفة. لكن الأغلبية الضعيفة والتي طال سكوتها وخارت قواها على مدى سنوات بدأت تنتفض شيئاً فشيئاً. إقصاء الشباب عن كل المناصب ومجالات العمل السياسي، حرمانهم من التعليم الضامن لفرص تشغيل تؤدي الى حياة آدمية، وتجاهل حقهم في الصحة والسكن والرياضة والترفيه والثقافة الحقيقية أدت إلى تراكم الميل للعنف لدى الملايين من الشباب في مصر أكثر من ثلاثة عقود. وحين تصل نسبة البطالة في مصر إلى 12 في المئة، ويكون غالبيتها من الشباب، فذلك يعني أنها لم تعد قنبلة موقوتة، بل قنبلة انفجرت عملياً. تفجر القنبلة في مصر في كانون ثاني (يناير) 2011 لم يكن مفاجئاً لأحد الا ربما للنظام الهرم الذي تجاهل الشباب. وعلى رغم أنه في ثورة يناير لم يتفجر عنفاً، بل اعتراضاً واحتجاجاً على ظلم طال، لكن مجريات ما بعد الثورة كشفت العنف الكامن في الشباب، وإن لم يكن قوامه بالضرورة جسدياً. جسد مصر الشبابي نضح بالكثير طيلة الفترة الانتقالية التي حفلت بكم مذهل من العنف، بدءاً بعنف سائقي السيارات في شوارع المحروسة، ومروراً بالفعاليات الاحتجاجية التي كثيراً ما كانت تتحول الى عراك، وانتهاء بالعنف الفضائي الذي بات عقيدة إعلامية لكثيرين. وكم من تظاهرة لفئة لخريجين جدد مطالبين بفرص عمل، أو عمال باحثين عن عقود ثابتة، أو معلمين بالقطعة منددين بنظام الكادر، أو مصابي الثورة الباحثين عن علاج تحولت كلها إلى اقتحام لمبنى، أو تهشيم لمحتواه، أو اعتداء على موظفيه. التدهور الاقتصادي، والاستقطاب السياسي، والانفلات الأمني الرهيب أزاح الغطاء عن بالوعة العنف الكامن الذي صنعته أنظمة سابقة بتجاهلها واجباتها بتعليم وتنشئة وتربية أجيال متلاحقة. وكم من شاب ردد عبارات مثل «علي وعلى أعدائي» أو «ليس لدي ما أخسره» الدالة على الإحباط التام في سياق المطالبة العنيفة بالحقوق. حقوق الشباب المصري الضائعة على مدار عقود طويلة لن تحل في أشهر قليلة. وبدلاً من أن يعي نظام جماعة الإخوان ذلك، مضى قدماً في طريق القهر والكبت والظلم والإقصاء، مضيفاً عاملي التكفير والاستقطاب. فخرجت رموز إخوانية وحلفاء لحكمهم الديني يكفرون شباباً ثورياً طالب بالحقوق المسلوبة والمشاركة الممنوعة. ولم تترك رموز الحكم تهمة إلا وألصقتها بالشباب المعترض والمناهض لحكم محمد مرسي وهو ما فتح أبواب المزيد من العنف. فمن «بلاك بلوك» البدائي التنظيم إلى «ألتراس» فرق الكرة المختلفة الذين ارتكبوا أعمال عنف في إطار احتجاجهم على قتل أصدقائهم في مجزرة بور سعيد التي لا يزال مرتكبوها الحقيقيون مجهولين إلى مجموعات الصبية والمراهقين الذين يملأون أرجاء القاهرة صخباً وبلطجة. جزء أصيل من العنف الموجود في مصر يتمثل في أعمال البلطجة وانتشار البلطجية. وما هؤلاء إلا نتاج أصيل لنظام مبارك المسكوت عنه من قبل نظام مرسي. الملايين من أطفال الشوارع الذين تطوروا ليكون لهم جيلاً ثانياً خرج إلى النور في عراء الشوارع، والأطفال العاملين المتسربين من نظام تعليمي متحجر، وطلاب المدارس المنفلتين والذين يتخذون من الشوارع ودور السينما بديلاً عن فصول الدرس في تجاهل شبه تام من قبل الأهل والمدرسة، وغيرهم كثير ممن يفتقدون رعاية اسرية وتنشئة دينية سليمة ومساندة تعليمية، ناهيك عن الحق في الصحة والسكن والثقافة وغيرها جميعهم تصدر المشهد في خلال العامين والنصف الماضيين، وجميعهم تم استخدامهم واستغلالهم من أجل تحقيق مصالح شخصية أو سياسية. السياسة من جهتها، والقائمون عليها من كل الأطياف سمحوا لأنفسهم باستغلال الشباب. فشباب التيارات الإسلامية يتم استغلالهم بشكل واضح في أعمال الحشد والتجييش تحت راية الجهاد في سبيل الله أو نصرة الشريعة أو حماية الشرعية، وهو ما يتطور في كثير من الأحيان إلى أعمال عنف وقتل وتعد يتم تبريرها بأنها ضرورة على طريق الجنة. عنف هؤلاء يفجر عنف أولئك أو العكس. وحتى ولو لم تنتهج تيارات الشباب المدني والثوري نهج العنف، على الأقل من موقع «البادئ»، فقد زرع العنف مبدأ «البادي أظلم» أي فتح الطريق لمزيد من العنف. ولا يمكن أن يبخس حق شاشات التلفزيون في تشغيل ماكينة العنف والعنف المضاد، سواء بالشحن الديني ودعوات الجهاد وسفك الدماء نصرة للإسلام، أو بالضغط من أجل المزيد من الاستقطاب. العنف الذي يبدأ بقيادة السيارة بجنون وعدائية ويصل حد تكفير المعارض السياسي هو عنف ممنهج اتبعته الدولة وسكت عنه الجميع فتحول أسلوب حياة.