في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 2012 أصدرت مجلة «تايم» الأميركية عدداً خاصاً توَّجته بصورة الرئيس المصري محمد مرسي الذي اختارته «رجلَ السنة» مع عنوان بارز يقول: أهم شخص في الشرق الأوسط. وكتب مدير التحرير ريتشارد ستينغل، في مقدمة الحديث الذي أجراه مع مرسي، أن رئيس مصر الجديد يمكن أن يتحول إلى فرعون إذا هو تجاهل إرادة الشعب ومبادئ الديموقراطية، وقال إن الرئيس تعهد أثناء المقابلة، باستلهام عقيدة الإسلام التي تؤمِّن حرية التفكير والتعبير لكل مواطن، مع الحرص على تطبيق حقوق المساواة لمختلف الطوائف. وكرر مرسي أثناء المقابلة أكثر من مرة أنه رئيس كل المصريين، وليس رئيس جماعة «الإخوان المسلمين» فقط. وعليه، نشرت المجلة في العدد ذاته خلاصة استطلاع الرأي الذي قامت به، ليظهر أن نسبة 65 في المئة من الشعب المصري تؤيد خيار الرئاسة لمحمد مرسي... بينما ظلت نسبة المعارضين في حدود 35 في المئة. بعد مرور سنة على ولاية محمد مرسي، أجرى «المركز المصري لبحوث الرأي» العام استطلاعاً حول رضا المواطنين على أداء رئيس الجمهورية، وجاءت النتيجة مخيبة لآمال نسبة كبيرة جداً من المواطنين الحياديين الذين راهنوا على نجاح ممثل جماعة «الإخوان». ولم تكن تلك النتيجة محصورة بسكان المدن الكبرى، كالقاهرة والإسكندرية، وإنما شملت المحافظات، بدءاً بالوجه القبلي... وانتهاء بالوجه البحري. واستغلت شلة من الشباب الثوري النقمة العارمة في البلاد لتشن حملة «تمرد» ركزت نشاطها على جمع أكبر كمية من تواقيع المارة بهدف سحب الثقة من الرئيس مرسي، واستطاعت خلال فترة زمنية قصيرة جمع أكثر من 22 مليون توقيع يطالب أصحابها بضرورة إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة. في الذكرى الأولى لتسلمه الحكم، ألقى محمد مرسي خطاباً استفزازياً حمل فيه على كل معارضيه، وهدد منتقديه بالانتقام إذا واصلوا تحريضهم على قلب نظام الحكم، والتشكيك بشرعية مقامه. واستغل هذه المناسبة أيضاً ليُعدِّد، على الهواء، أسماء الذين يشك في سلوكهم، من قضاة وإعلاميين وإداريين. وكان من الطبيعي أن يُقابَل خطابه بالاحتجاج والتذمر، كونه استغل منصبه ليتهجم على منتقدي حكمه. وأعرب عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية السابق، عن أسفه وامتعاضه لأن الرئيس مرسي ذكر أسماء المحتجين على أدائه السياسي، بحيث إنه صنفهم بين الخصوم. واستنكر الكاتب محمد حسنين هيكل ذكر الرئيس المصري أسماء شخصيات عامة خلال خطابه، مشدداً على الفارق بين حديث رئيس حزب ورئيس دولة، وأنه لا يجوز الخلط بين الاثنين. وحول هذا الموضوع، أعلن بعض المسؤولين المصريين أن محمد مرسي لا يستطيع الخروج من حظيرة مكتب الإرشاد العام لجماعة الإخوان المسلمين. ومعنى هذا أنه لا يمكنه التصرف كرئيس لكل المصريين، كما أعلن مراراً. ومثل هذا الانتماء العقائدي يمنعه من فتح حوار وطني مع معارضيه، بسبب الانغلاق والتوهم أن حزبه يملك الحقيقة الكاملة. انطلاقاً من هذه المفاهيم المتناقضة، فإن المعركة التي حركت الجماهير في مصر أصبحت معركة الحسم النهائي بين الليبراليين والعلمانيين من جهة... والأصوليين المتزمتين من جهة أخرى. كتب المحلل السياسي جيمس تروب في مجلة «فورين بوليسي» مقالة حول الانحراف الديموقراطي في بلدان مثل مصر وتركيا والبرازيل، وقال إن مرسي يتوجه إلى أنصاره الذين لا يشكلون الغالبية المطلقة على أنهم الشعب الذي يحكم باسمه، لذلك فهو يعتبر المعارضة شريحة مهمَّشة وخاضعة لتوجيهات قوى خارجية. وكانت حال مرسي كحال عدد من الرؤساء الذين يمرون في مرحلة انتقالية يتوهمون أنها مستمرة، لذلك أمسك بمقاليد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، معتبراً أن إرادته نابعة من إرادة الشعب. وبعد انقضاء سنة واحدة انزلق مرسي تدريجياً من رئيس ديموقراطي إلى دكتاتور مستبد، وكان من المتوقع أن تنزلق مصر معه نحو الفوضى والعنف والشلل الاقتصادي. ونتج عن كل ذلك ازدهار موسم التظاهرات في الساحات مع حشود ترفض جعل مطالبها من الديموقراطية مقتصرة على الاقتراع فقط. ومع إجهاض الديموقراطية، الطرية العود، عادت مصر إلى المربع الأول، أي إلى حالها قبل التغيير الديموقرطي، مثلما حصل في باكستان أكثر من مرة. بعد مرور سنة من ولاية مرسي، اضطرت المعارضة إلى نقل نشاطها مرة أخرى إلى الشارع، مع استبدال شعار «ارحل يا مبارك» بشعار «ارحل يا مرسي»، والسبب أن صندوق النقد الدولي رفض منح مصر القرض الضروري لإنعاش الاقتصاد الهزيل وقدره ثمانية بلايين دولار ونصف البليون. وذكر في حينه أن الرئيس رفض إحداث تغييرات سياسية ومالية تؤثر على طبيعة النظام القائم، وكان ذلك بتوجيه من المرشد العام للجماعة الدكتور محمد بديع، الذي أعلن: «يبدو أن حلم الشيخ حسن البنا في إحياء الخلافة الإسلامية قد اقترب». والمعروف أن كمال أتاتورك ألغى الخلافة الإسلامية سنة 1924، عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية. وفي سنة 1926 عقدت الدول العربية مؤتمراً في القاهرة من أجل إحياء فكرة الخلافة، وقد ساندها في إحياء هذه الدعوة الملك فؤاد، باعتباره كان يطمح إلى نيل هذه الزعامة الدينية، ولكن المجتمعين انقسموا حول طرق إرساء النظام الجديد، وتفرقوا من دون حل. في سنة 1928 أعلن حسن البنا إنشاء جماعة «الإخوان المسلمين»، محدداً أهدافها بالعمل على إحياء فكرة الخلافة الإسلامية، وهذا ما دعا الدكتور بديع، المرشد العام للجماعة، إلى القول إنه بعد 84 سنة وصل «الإخوان» إلى حكم مصر. وقد اختاروا محمد مرسي رئيساً للجمهورية التي تستلهم في خطواتها المحسوبة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، لذلك قارن أحد المعلقين بين توجهات لجنة الدستور في مصر وبين السلطات الدينية والدنيوية التي يملكها مرشد النظام الإيراني علي خامنئي. وهذا ما يفسر تقرب مرسي من إيران، الأمر الذي فاجأ الولاياتالمتحدة، التي سارعت إلى تجميد مبلغ أربعة بلايين و800 مليون دولار، كان من المتوقع أن تمنح لمصر كقرض مسهل. وتبع هذا القرار تردد من قبل صندوق النقد الدولي. كشفت مصادر قريبة من القيادة العسكرية في القاهرة، أن شعبة المعلومات كانت تراقب باهتمام الطريقة التي اتبعها «الإخوان» من أجل السيطرة على مؤسسات الدولة. ولوحظ أنهم قلدوا خطوات الخميني في الاستيلاء على الدولة بعدما تلطى وراء الرئيس بني صدر مدة من الزمن. وبالمقارنة، لاحظ كبار الضباط في مصر، أن «الجماعة» أنشأت هيئة عليا مستقلة تماثل في دورها دور هيئة تشخيص مصلحة النظام في ايران. وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي دعا كبار ضباط القيادة إلى اجتماع مغلق تقرر خلاله استغلال التظاهرات الضخمة من أجل إجهاض مشروع جماعة «الإخوان» وقد تحفظ بعض الجنرالات على توقيت العملية لأن الدول الكبرى -خصوصاً الولاياتالمتحدة- ليست في وارد دعم الانقلابات العسكرية، كما فعلت حيال انقلابات جمال عبدالناصر ومعمر القذافي وعبدالله السلال. عندئذ، اقترح وزير الدفاع تمويه دور الجيش وإظهاره بمظهر القوة التنفيذية لممثلي الطوائف والقيادات الشعبية المؤثرة، لذلك استُدعيَ على عجل كل من: شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وبابا الكنيسة القبطية تواضروس، ومفوض جبهة الإنقاذ الدكتور محمد البرادعي، وممثل عن حزب النور السلفي. ومع أن الدعوة وُجِّهَت أيضاً إلى محمد مرسي، إلا أنه رفض الحضور لئلا يُقال إنه تراجع عن موقفه المعارض لأي تغيير أو تعديل قد يمس بشرعية انتخابه. بقي موضوع تبرير العملية، لأن مثل هذه الخطة تحتاج إلى قرار من رئيس الجمهورية باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة. وقد استند الجيش في هذا الموقف إلى المادة التي تمنحه حق التدخل في حال تعرض الأمن القومي للخطر. لهذا السبب، قام وزير الدفاع بإلقاء بيان مقتضب باسم كل الحاضرين، يكلف بموجبه رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلي منصور بإدارة شؤون البلاد، وحصر مهمة الجيش بتنفيذ خارطة طريق مستقبلية تُعنى بتشكيل حكومة كفاءات ولجنة تضم كافة الأطياف لمراجعة التعديلات الدستورية. وقد رحبت المؤسسة العسكرية بهذا الإخراج السياسي، وخصوصاً المشير حسين طنطاوي، الذي أحاله مرسي إلى التقاعد كعقاب على دوره الداعم لمنافسه أحمد شفيق. تأييداً لهذه الخطوة الشجاعة، تلقت قيادة الجيش آلاف البرقيات من زعماء الأحزاب العلمانية والليبرالية والأقباط وحركات النساء واتحادات الفنانين، الذين أطلقوا على محمد مرسي لقب «الرئيس مرسيليني»، تذكيراً بالديكتاتور الإيطالي موسوليني! وقالت صحف القاهرة إنه سينزل في تاريخ مصر كرئيس أمضى أقصر فترة في الحكم، كونه بقي في كرسي الرئاسة أقل من المدة التي خدم فيها محمد نجيب بستة أشهر. والملفت أن المحكمة الاتحادية في أبوظبي كانت قد حكمت يوم الثلثاء الماضي على أعضاء تنظيم سري تابع ل «الإخوان المسلمين»، وقد اتهِموا بالإعداد لأعمال شغب بتوجيه من قيادة «الجماعة»، لذلك جاءت تغريدة وزير الخارجية عبدالله بن زايد في مستوى التهنئة التي أرسِلت إلى الرئيس الموقت عدلي منصور. وأرسل العاهل السعودي عبدالله بن عبدالعزيز برقية تهنئة إلى المستشار منصور اعتُبِرَت بمثابة الحافز الذي شجع الدول الأخرى على تقليد هذه المبادرة، ذلك أن المملكة تعرف جيداً الحجم السياسي والتاريخي لدولة مصر العربية، ولما يمكن أن تتركه من تأثير على دول المنطقة. ويتوقع المراقبون أن ينعكس هذا الحدث بشكل إيجابي على مسار «الربيع العربي»، بحيث تصبح مصر المرجعية السياسية القادرة على المشاركة في صنع مستقبل العالم العربي. وسيكتمل هذا الدور بعد تشكيل حكومة ائتلاف وطني تهتم بتحديد موعد الانتخابات النيابية المقبلة. وفي ظل البرلمان الجديد، يُصار إلى مراجعة بنود الدستور بواسطة لجنة صياغة تأخذ في الاعتبار الأمور الحساسة المتعلقة بالشريعة الإسلامية ودور الرئيس ومكانة المرأة وحقوق الأقليات. وحول النشاطات الحزبية، سيصدر قانون يتعلق بجمع الأسلحة على كافة أنواعها من مختلف الخلايا الحزبية السرية. وعندما ينتهي الجيش من تنفيذ هذه المهمة، تقوم جماعة «الإخوان المسلمين» بانتخاب أمانة عامة جديدة تبدأ نشاطها بالإعلان عن حزب سياسي معارض ليس له علاقة بحسن البنا ولا بتاريخ نزاع أربك مصر مدة 84 سنة! * كاتب وصحافي لبناني