تشير الدلائل التاريخية التي وصلتنا من العصور الوسطى إلى وجود جالية كبيرة من الأحباش تقيم إقامة دائمة في بيت المقدس، ووجود دير لهم في المدينة المقدسة على اتصال دائم بمملكة الحبشة، كان من شأنه إطلاع ملوك الحبشة على أخبار الحروب الصليبية أولاً بأول، ولم يغب عن البابوية وأصحاب المشاريع الاستيطانية في القدس فكرة الإفادة من الحبشة المسيحية في حرب المسلمين، وبخاصة في الطور الأخير من الحروب الصليبية، بعد طرد الصليبيين نهائياً من الشام في أواخر القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الميلاديين، فأرسلت البابوية سفارات عدة في ذلك القرن إلى ملوك الحبشة؛ لحثهم على المشاركة في حرب المسلمين، وشجع البابوية على ذلك ما سمعته عن ملوكها من اضطهادهم المسلمين، وكان أشهر هؤلاء الملوك آمادا سيون الأول (1312 - 1344م) الذي امتد حكمه 32 عاماً، وما أدخله من تنظيم على شؤون الدولة، وتمكنه من بسط نفوذه على مقاطعة جوجام التي يحيط بها النيل الأزرق، وتخطى نفوذه هذا النهر إلى إقليم بيجمدير، وبذلك وطد أقدام مملكة الحبشة، وحدد معالمها، ووحدها تحت حكم أسرته، وأصبح بذلك قادراً على مواجهة أقدام التقدم الإسلامي الذي بدأ يظهر في الجنوب وامتدت حروبه إلى سائر الممالك التي تحيط بمملكته من الشرق والجنوب، واستمرت تلك الحروب طوال القرنين التاليين، ومن هنا كان الصدام المملوكي المصري بالحبشة مباشراً، بدأ بتعاون حبشي مع الغرب الأوروبي وأذنابها. أما عن مسلمي الحبشة فقد قاموا بإرسال سفارة إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون تهدف إلى حثه على التدخل لحماية مصالح المسلمين هناك، فطلب السلطان من بطريرك الإسكندرية أن يكتب رسالة لملك الحبشة في هذا الصدد، ومنذ ذلك الوقت تطور العداء الحبشي للمسلمين الأحباش، وتجاوز ذلك إلى مصر المملوكية نفسها، وبدأت محاولة ملك الحبشة لتحويل طريق التجارة بالاتفاق مع الغرب الأوروبي بهدف إحكام حصار مصر اقتصادياً، والقضاء على مواردها التجارية؛ وبهذا أصبحت الفكرة الصليبية المتأصلة تماماً عند الأحباش المسيحيين دافعاً لهم إلى أن يوجهوا عدوانهم وجهتين في آن واحد: وجهة تستهدف إبادة العناصر الإسلامية في الحبشة، ووجهة تستهدف محاربة مصر راعية مصالح المسلمين الأحباش. ونتيجة لذلك بدأت تظهر أفكار لبعض الدعاة الصليبيين تدعو لإشراك الأحباش في القضاء على سلطنة مصر المملوكية، واقترنت هذه الأفكار بفكرة أخرى طالما نادى بها دعاة الحروب الصليبية والمشاريع الاستيطانية، هي تجويع مصر بتحويل مجرى النيل في الحبشة، وهناك من المصادر ما يشير إلى أن ملوك الحبشة هددوا بهذا أكثر من مرة. ورأى بعض الرحالة الأوروبيين أن باستطاعة ملوك الحبشة فعل هذا، ومنهم جوردان سيفراك، ويوحنا ماريجنولي. وأشار سيمون سيجولي وبرتراند دي لابروكيير وبيرو طافور إلى أن باستطاعة القديس يوحنا تحويل مجرى النيل عن مصر والقضاء على رخائها. وعلى رغم أن تحويل مجرى النيل عن مصر أمر تقف أمامه عقبات عديدة: منها عقبات الموقع والتاريخ والبشر والمبادئ والأهداف والمثل العليا، فإن العقلية الصليبية في العصور الوسطى اعتقدت بإمكان حدوثه آنذاك، واتخذ سلاطين المماليك من جانبهم بعض الإجراءات للحيلولة من دون ذلك؛ فحظروا على الأوروبيين الإبحار عبر أعالي النيل أو البحر الأحمر، وكان مرد ذلك القلق التاريخي الدائم من نيات ملوك الحبشة العدائية تجاههم، وما يترتب على الاتصال بين الغرب الأوروبي أو عملائهم وملوك الحبشة من نتائج وخيمة على سلطنة المماليك، شرها أن يعملا معاً على تحويل شريان مصر المائي، ثم يهاجم الحليفان مصر للقضاء عليها. وأشار فليب دي ميزيير - صاحب المشروع الصليبي الكبير في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي - إلى إمكان تحويل مجرى النيل للقضاء على قوة مصر الاستراتيجية في المنطقة قضاءً تاماً. ويرى أحد المؤرخين الغربيين أن ما جعل ملك الحبشة يُعرض عن تنفيذ ذلك، أن المسيحيين في مصر جميعاً سيهلكون جوعاً، إن فعل. تلك كانت رؤية الغرب الأوروبي لمملكة الحبشة المسيحية، تلك رغبته في التحالف مع تلك المملكة المسيحية، التي تكاد تتحكم في مدخل البحر الأحمر من ناحية الجنوب لتحقيق مآربه؛ فهي قادرة على غلق الباب الجنوبي للبحر الأحمر، ومنع تجارة الشرق عن مصر، ما يؤدي إلى خسائر اقتصادية كبيرة لسلطنة المماليك، ثم يستطيع الغرب الحصول على هذه المنتجات من طريق آخر، وبعد القضاء على قوة مصر الاقتصادية تمكن الاستفادة من تلك الدولة عسكرياً بأن تهاجم مصر من الجنوب، في الوقت الذي يشن فيه الغرب الأوروبي حملات عسكرية بحرية عليها من الشمال، وتتحقق في النهاية آمال الصليبيين في إعادة الكيان الصليبي في الشرق. من هنا بلغ الوعي المصري بالحبشة أعلى درجة أو درجات من الوعي ببقية المناطق الأفريقية، وانعكس ذلك في الكتابات التفصيلية عن بلاد الحبشة في المؤلفات ذات الطابع التاريخي والشعبي مثل سيرة (سيف بن ذي يزن) التي جسدت العلاقة بين مصر والحبشة في فترة من فترات تصادمها في عصر سلاطين المماليك في مصر، فجاءت السيرة الشعبية تعبيراً عن الصراع الحبشي المصري به، وتعبيراً عن الواقع المصري سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ومثل هذا التهديد وغيره هما اللذان عكست السيرة في ضوئهما خوف مصر البالغ على نيلها الذي جعلت تدفقه إلى الوادي تدفقاً علوياً قدرياً، أي منحة إلهية لا تخضع لإرادة بشر مهما كان جبروته، ولكنه الخوف من الجغرافيا السياسية التي يمكن - في تصور المجتمع الشعبي - أن تحول دون مجيء مياه النيل إلى أرض مصر، بفعل فاعل حاقد أو متربص على حدودها. ومن هنا تبدأ السيرة بنصيحة مبكرة على لسان وزير الملك ذي يزن نفسه: «واعلم يا ملك الزمان أن هؤلاء الحبشة والسودان لا بد أن تنفذ فيهم دعوة نوح عليه السلام... وأنهم يخافون على مجرى النيل من نزوله إلى الأرض الوطيئة خوفاً أن ينزل إلى مصر، فهم جاعلوه على قدر أرضهم، وإذا فاض يجعلون له تصاريف فيها إلى الربع الخراب، لا يعملون عملاً إلا بإذن الحكماء السحرة وهذا هو الصحيح والأمر الرجيح». وإذا ما لاحظنا أن عصر المماليك كان عصر تجمع للقوى العربية والإسلامية في مواجهة قوى أوروبا الموحدة تحت راية «الصليبية»، وأحسسنا أهمية ما لجأ إليه مؤلف سيرة سيف بن ذي يزن من رمز، حين جعل لبطله ولدين: أحدهما هو «مصر» الذي حكم مصر بعد جريان ماء النيل، والثاني هو «دمر» الذي يملك الشام ويعمرها. وكأنما أراد كاتب السيرة المصري أن يضع أمام الشعب العربي كله صورة رمزية لمعنى وحدته، وكأنما أراد أيضاً أن يجعل من وحدة الدم سنداً للوحدة السياسية ووحدة التاريخ والكفاح المشترك ضد العدوان الخارجي على أرضهما المشتركة، وهذه الفكرة – مرة أخرى – تؤكد معنى الوحدة السياسية والعسكرية باعتبارهما ضرورة وجود لمواجهة الغزو الصليبي في العصر المملوكي، الأمر الذي تؤكده في عمق ونضج كبيرين بعد ذلك سيرة الظاهر بيبرس. * كاتب مصري