يجمع بين رواية أمين معلوف «التائهون» وسيرة شفيق الغبرا «حياة غير آمنة» و «هذه ليست سيرة» لحازم صاغيّة، وغير هذه النماذج أنها روايتي، رواية جميع/ معظم أفراد جيلنا، الشباب الذين تشكل وعيهم في منتصف السبعينات، ثم تاهوا في الأرض، وتاه العالم كله أيضاً. لقد شهد هذا الجيل من الخيبات والأحداث والتحولات الكبرى ما يفوق ما شهدته البشرية في آلاف السنين، ولنتذكر على سبيل المثال لا الحصر، الثورة الإيرانية، والمد الإسلامي، والانحسار القومي واليساري، والثورة الإسلامية في أفغانستان، وفي سورية، واغتيال السادات، وصعود الإسلاميين إلى واجهة التأثير السياسي، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية والغزو العراقي للكويت ثم الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان وأحداث 11 أيلول، وصعود القاعدة والعنف «الإسلامي» ومكافحة الإرهاب، وربما أهم من ذلك الثورة المعلوماتية والمعرفية، الممثلة بالحاسوب والإنترنت والاتصالات والتصغير والتشبيك وأنسنة التقنية، والهندسة الجينية،... والعولمة، وانتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة، وأخيراً الربيع العربي! تفيض اللقاءات المنظمة أو العفوية أو الكتابات الكثيرة لهذا الجيل على اختلاف تياراته وتجاربه، بالنقد الذاتي والاعتراف المريح بالخطأ والتيه، أو كما قال حازم صاغيّة تعقيباً على ندوة عرضت تجارب فردية ونماذج من مختلف الأقطار والأفكار: «كلنا كنا مخطئين». كيف يؤول هذا الوعي غير المسبوق إلى التيه؟ كيف ينتهي النضال النبيل إلى حروب وديكتاتوريات دينية؟ كيف لا تنجز التضحيات الكبرى سوى خروج من سلطة العسكر والفساد والفشل إلى سلطة أخرى لا تقل فشلاً وفساداً؟ هل كان وعياً غير مكتمل؟ زائفاً؟ منفصلاً عن الواقع؟ ما الوعي المفترض نهوضه اليوم؟ كيف تتشكل الأجيال والطبقات بعيداً من الفلول (السابقة والقائمة واللاحقة) والجماعات الدينية الممعنة في الغياب والتغييب؟ لماذا لم تنجح الطبقات الوسطى وأجيال المثقفين والمهنيين في تجميع وتنظيم نفسها ومجتمعاتها حول أولوياتها الحقيقية؟ لماذا لم تنشئ وعياً بالانتماء العميق إلى الحياة والكرامة؟ لم نلاحظ العلاقة الوثيقة بين الطاقة اللانهائية المستمدة من استقلال المجتمعات وولايتها على مواردها وثقافتها وقيمها ومؤسساتها،وبين التقدم والديموقراطية والكرامة؟ كنا على مختلف تياراتنا وأفكارنا وانتماءاتنا نحسب التقدم يهبط على الأمم والمجتمعات مصاحباً للطلائع والرواد من المناضلين والمتدينين والمهدي المنتظر! ولم ننشئ شراكة حقيقية مع المجتمعات والناس، ولم نؤمن بقدرتهم على إنشاء حياتهم وكرامتهم بأنفسهم، نحسب أننا سنحضر لهم الكرامة والرفاه؛ وهم يجب/ يحبون أن ينتظرونا مثل أطفال وقاصرين! وكنا نحسب التقدم والحلول وصفة جاهزة، ولا نحتاج سوى فرضها/ تطبييقها بالقوة أو ديموقراطية الانتخاب! هل فات الأوان لندرك أن خريطة التقدم والإصلاح لا يعرفها أحد لأنها غير موجودة، ولكنها تنشأ وتتشكل في التفاعل السليم والعلاقات الطبيعية المتراكمة بين موارد الناس وأعمالهم ومدنهم وأسواقهم فتنشئ في ذلك منظومة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية منشئة على نحو متواصل للموارد والتحسين والتطور، وأن هذه الخرائط تتعدد وتختلف على نحو لانهائي بعدد الأفراد والمجتمعات والمدن والموارد والأسواق والأفكار.. والتخيلات، وكل ما نحتاج إليه أن نكف عن القلق والوصاية على الناس والمجتمعات لنعيش وإياهم الحياة كما يجب أن تعاش، ثم وببساطة نفكر كيف يمكن تحسين هذه الحياة، وماذا يجب أن نكون أو نفعل لتظل جميلة وتكون في كل لحظة أجمل من السابقة! لم تكن العلوم والاختراعات والأفكار واضحة في ذهن أصحابها عندما شرعوا في العمل لها ولأجلها، ولكنها هبطت/ تشكلت في الطريق مثل مصادفة! كتبت قبل أن أقرأ رواية أمين معلوف أنني أمضيت ثلاثين عاماً كأني علقت في متاهة أبحث عن المفتاح، ثم اكتشفت أن الباب غير مغلق، فخرجت، ولكني أمضيت بقية عمري أبحث عن الطريق! ولا بأس بذلك على أي حال، فالإصلاح هو ببساطة «دعونا نعيش». * كاتب أردني