أجبل الكلس بالمياه في غطاء الإناء الفارغ من المخلل، كي أسدّ بيوت النمل التي بانت أسفل درف المطبخ وتحت عتبة الحمام، مصغياً إلى الأغاني العراقية المنبعثة من وكالة غير بعيدة. أتحرك بحذر لئلا يلمع كتفي مرة أخرى فأضطر لاستعمال المزيد من المراهم الطبية ولصقات الصيدلية التي لا تفيدني. يضنيني ما أبتلعه يومياً من حبّات الأدوية المختلفة: للضغط، للسكري، للكبد، للقلب، ولتشكيلة الأمراض اللازمة وقد ولجت الشيخوخة، وأنزعج كلما لجأت إلى الحبوب الإضافية والإجبارية لحماية المعدة من أثر الحبوب السابقة، لأنني مع هذه الحبّة المصفرة والمستطيلة بالذات، أتذكر بدايات اعتلالي وكم أن الواحد منا مطروح في مهب الريح على الدوام، بلا حماية، ومن دون حاجة إلى جيوش تهاجمك أو سيارة تصدمك وأنت تقطع الشارع كي تمزق طحالك، ومن دون هزّة أرضية أو إعصار يمحو مدينة أو جزيرة... أركع على بلاط الحمام على ركبة واحدة، وأستخدم مفكاً قديماً للبراغي، كي أتمكن من دفع الكلس الرطب المعجون إلى داخل بيوت النمل. في ما مضى كانت زوجتي تفعل هذا. كلما عبرت الأعوام أنتبه مرة أخرى إلى حجم المهام التي كانت تتكفل بها من دون أن تشعرني بذلك. أحدِّث نفسي أحياناً وأنا أضع رأسي على المخدة في السرير العريض الكبير جداً، وأنا أحاول أن أتنفس أحسن وأعمق، وأدع فمي مشقوقاً بعض الشيء وأتهيأ لنوم قد لا يجيء، أقول لنفسي إنها كانت جبّارة في حياتها، وإنني طالما تجاهلت أن أعترف بذلك، وإن الأوان قد فات الآن كي أسألها من أين كانت تستمد تلك العزيمة كلها... لا أتذكرها تشكو يوماً من مرض أو وهن... تفرّ النملات من رأس المفك وأدعها تبتعد وأفكر في الإنسان البربري وما يفعله بالمخلوقات الباقية التي تشاركه هذا الكوكب. تتخبط نملة علقت في العجينة الكلسية التي بدأت تتجمد عليها، وأتخيل ان لها أقارب ينتظرونها في البيوت المتشعبة تحت البلاط. مَن أذكى: نمل الأرياف الساكن الواحات، حيث الشمس الوهّاجة والثمار تقع ناضجة من النخل، أم هذا النمل المقاوم في عمارات الأسمنت والظلام؟ أنهض تاركاً الغطاء والمفك على البلاط، كون العملية بطيئة وغير ناجعة، إذ إن الكلس، أو لعله تراب أبيض، يتجمد بسرعة على الغطاء، وقبل أن تتاح لي الفرصة كي أدفعه في الثقوب... ثم أنني تذكرت فجأة شيئاً قيل لي من قبل ولم أهتم له كفاية آنذاك، وأما الآن فيجدر بي الاهتمام: اذا أقفلت هذه الثقوب سيجد النمل مخرجاً آخر في نقطة قريبة. وأنا تفحصت المكان والمخارج الممكنة في حالات الطوارئ بالنسبة إلى النمل، وانتبهت أنها علبة الكهرباء بثقوبها الثلاثية. في ما لو لجأ النمل إلى فتح مخارجه هناك فقد يلتهم الأسلاك ويسبب تماساً كهربائياً وحريقاً أنا في غنى عنه. سبب آخر لنهوضي هو الألم الذي انبثق في ركبتي على حين غرة، وهو نوع من الألم يختلف عن الألم في كتفي... وهذا بدوره لا يشبه من قريب أو بعيد ألم برقة الظهر... عجيب كيف أن الأوجاع لا تتشابه، مع أنها جميعاً تنتهي بك إلى نقطة واحدة من الجحيم. أرتاح قليلاً في كنبتي المفضلة وأشرب جرعة شاي فاترة وألفّ سيجارة. ترتعش أناملي على المنضدة، وأنا أحاول صفّ التبغ في خط مستقيم، وأستعيد صورة زوجتي وهي جالسة إلى طاولة المطبخ في الصباح الباكر، تحت النور الباهر المنهمر من النافذة، تلفّ لي سجائري وهي شديدة التركيز على مهمتها، كأنها تنحت تمثالاً أو تصيد سمكاً من النهر أو تنفذ عملية جراحية في نقطة حساسة من دماغ المريض. تتحرك الغرفة جيئة وذهاباً، كأن الهزّة الأرضية التي خطرت في ذهني قبل دقائق وأنا أدمر المجمعات السكنية للنمل المسكين، قد حلّت أخيراً. أفتح فمي وأشهق الهواء، وأحاول أن أجلب السكينة إلى نفسي لئلا يقع لي أذى، من فرط الضغط النفسي الذي أجدني عرضة له من دون أن أنتبه. هناك صور تفتك بنا... ذكريات من الأفضل لي، ولهذا الجسد الهرم الذي أنهكه الحصار غير أنه ما برح يأكل ويشرب ويدخن، إبعادها وطردها من الغرفة الصامتة. تتوقف حركة اللمبة المدلاّة من سلك متسخ، وأرى خط النمل يتمدد نحو كنبتي ويتسلق الحائط، قادماً من كوخ بعيد يتكوم كالتل الصغير من التراب الأحمر على بلاط الحمام. وتحوم ذبابة ذات طنين وتحطّ بلا وجل، كنقطة حبر سوداء، على كوب الشاي.