صندوق حديدي أحمر طالع الصبي الصغير عند دخوله إلى المنزل سريعاً، آتياً من المدرسة. شدّته الأدوات المطروحة بترتيب حول الصندوق، وظلّ يحدّق فيها وهو مسرع إلى الحمّام. قضى الصبي حاجته سريعاً، وعاد إلى حيث الصندوق. جثا فوقه يستمتع بالمطرقة والمفكّ والمنشار والبراغي والمسامير... هو لم يكن يعرف أسماءها ووظائفها ولكنّه افتُتن بأشكالها وألوانها. أعجبه المثقاب أكثر بريشته الحلزونية وتساءل عن دور الشريط الكهربائي... «إنه خرْبرْ» (أي مثقاب)، قال رجل غريب بصوت أجش أفزعه قليلاً، قبل أن يرى أباه وأمه يسيران خلف ذلك العملاق. تنحّى الصبي جانباً ليدع الرجل يتناول «الخربر» الكبير بيده الضخمة. جلست الأم بجانب ولدها ثم وضعته فوق حضنها، وقالت: «هذا عمّو أبو حسن، جاء ليركّب لنا خزانة في شرفة المطبخ». دعا الفضول الصبي للخروج إلى الشرفة، فوجد شابين إضافيين، يثبّتان خزانة خشبية، بينما «عمّو» أبو حسن يثقب الجدار في نقاط معلّمة بقلم رصاص غليظ، وضعه خلف أذنه. الصوت القوي جعل جفني الصغير يرتعشان وسبّابتيه تسدّان أذنيه بحركة تلقائية عفوية، فضحك الحضور. بعد قليل، انتصبت الخزانة التي ستضع فيها الأم مؤونة الحبوب وأغراضاً كثيرة. ثم انصرف «العمّو» ومساعدوه إلى أشغال أخرى، بينما الأم تؤدّي دور الدليل إلى الشوائب والأعطال والأشياء الصغيرة الأخرى التي تتسبب للأم بانزعاج، انزعاج من تردّي حالة المنزل وانزعاج أكبر من تكاسل زوجها في ترك أمور الصيانة والتصليحات حتى الرمق الأخير للأشياء. الصبي كان يتبع «العمّو» أينما دخل ويراقب عمله. وبعد أن تعوّد على الرجل، أخذ يطرح الأسئلة، وكلها عن «الخربر» وبعض الأدوات الأخرى. كان أبو حسن قليل الكلام، ولكنهّ لم يبخل على الصبي بالأجوبة، بينما أبقى عيناً على مساعديه ليعطيهما ملاحظاته كي يصوّبا الخطأ قبل ارتكابه. نما تعلّق، لا بل ودّ، مفاجئ بين الصبي ومصلّح الأشياء، أبي حسن الذي قال عند الباب، بعد أن نظّف الفريق كل أثر ووضّب عدّة الشغل: «أستطيع أن أفعل أي شيء تطلبوه مني. رقم هاتفي معكم، اطلبوني متى شئتم». انتبه الوالد، إثر لكزة مخفية من الوالدة، إلى أن عليه أن يدفع المال. فانتقض، ودس يده في جيب قميصه وناول أبا حسن المبلغ المتفق عليه. تبادل الجميع الابتسامات، وخرج مصلّحو الاشياء بعد التحية، وانصرفت الأم إلى ملء الخزانة بالأغراض، وتلمّس الأب «ثقباً» غريباً في جيبه، ربما أحدثه انتزاع المبلغ منه. وأما الصبي فراح يستعجل حدوث الأعطال ليعود أبو حسن وأدواته في أقرب وقت. ولأن كل شيء يخرب، عاد مصلّح الأشياء مرات كثيرة إلى بيت الصبي الذي راح يكبر ويكبر معه حبّه لدور أبي حسن في الحياة. وأخفى الولد عن والديه تعلّقه بمهنة التصليح وإلمامه بها، لا بل معرفته، بتفاصيلها، لئلا توكل إليه هذه المهمة، بعدما شب، ويفقد الاتصال بالرجل الذي يكنّ له احتراماً كبيراً. أحياناً، كان يعبّر لخالته عن رغبته العارمة في العمل بتصليح الأشياء عندما يكبر، فقد كان والداه يدفعانه نحو الطب أو الهندسة أو المحاماة. وهي من المهن «المثرية» التي كان يتطلّع إليها الأهل ويتمنونها لفلذات أكبادهم، كسباً للقمة العيش والبنت الحلال والرغد... إلّا أن الأهل آنذاك، والأبناء في ما بعد، ومعهم أجيال الأطباء والمهندسين والمحامين ظلت عيونهم على مصلّحي الأشياء الذين يتقاضون أجوراً أعلى من أجورهم، ويبقون أحراراً في حياتهم وعملهم، ويشكّلون على رغم اتصالهم اليومي بالأعطال والأوساخ... مثالاً يحتذى!