في لقائي معها في برلين، المدينة التي تسكنها حالياً منذ خريف العام الماضي لمدة سنة إثر حصولها على منحة أكاديمية لترجمة أطروحة الدكتوراه التي كتبتها عام 2009 إلى اللغة الإنكليزية بعنوان «صور أميركا في كتابة الرحلة العربية حتى عام 2004، رفضت الشاعرة المصرية إيمان مِرسال في حديث مع «الحياة» التحدث عن وجود غربة، أو مهجر، أو أدب مهجري حالياً. وقالت الشاعرة المتنقلة بين وطنها الثالث كندا ووطنها الأم مصر والثاني الولاياتالمتحدة، إن هذه التعابير التي يتداولها البعض كتفسيرات لكلمة بيت أو بيوت التي تتردد في قصائدها، وفي ديوانها الأخير «حتى أتخلى عن فكرة البيوت»، تعابير لا تستسيغها ولا تعكس الواقع في نظرها، وواقعها هي بصورة خاصة. وأضافت أنها لا تشعر في كندا حيث تعيش مع زوجها الأميركي وابنيهما في بلدة صغيرة، أو في الولاياتالمتحدة قبل ذلك، بأنها في غربة أو في هجرة بعد مرور أربعة عشر عاماً على مغادرتها وطنها الأم وبيتها الأول، وإنما في تفاعل إنساني مستدام كجزء من العالم ومن ثقافاته. وكانت نقطة الغربة والهجرة محور مشاركة الشاعرة المصرية في «مهرجان الشعر الرابع عشر في برلين» الذي أقيم في السابع من الشهر الجاري في قاعة «أكاديمية الفنون» في برلين، واستمر ثمانية أيام حافلة بالأدب والشعر والفن المسرحي والمناقشات. وشارك في المهرجان 160 شاعراً وأديباً وفناناً ألمانياً وأجنبياً توزعوا على 75 نشاطاً جرت في قاعات وصالات ومراكز أدبية في أمكنة عدة من أحياء العاصمة الألمانية. ولمِرسال دواوين عدة صدرت في عدد من اللغات الأجنبية بينها الألمانية، وشاركت في مهرجانات شعرية دولية حيث تحظى قصائدها باهتمام القراء بفضل لغتها الجديدة في التعاطي مع الناس والأشياء المحيطة بهم والتي بالكاد ينتبهون إليها. وكان لافتاً بدء مدير المهرجان ومسؤول المركز الأدبي في برلين توماس فولفارت كلمته في حفل الافتتاح بمقطع صغير من قصيدة للشاعرة مِرسال جاء فيه: «وأخبرني وهو يمشي في الاتجاه الآخر/ أنه لم يتخصص في فهم الانهيارات/ لأجلي». ورداً على سؤال حول أوجه الشبه والاختلاف بين الأدب المهجري في مطلع القرن العشرين والأدب العربي الحالي في المهجر تقول مرسال: «لا يوجد ما يمكن تسميته اليوم مهجراً، أو أدباً مهجرياً، وهذا أمر تطرقت إليه في أطروحتي للدكتوراه. وفي رأيي أن لحظة التقاء الشعر العربي بالأميركيتين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت محكومة بوضعيته كشعر مهاجر مهدد بفقد التواصل مع وطنه الأم، كما كانت محكومة بتصور رومنطيقي عن فكرة «أرض الأجداد». وتابعت: «جبران خليل جبران ذهب إلى بوسطن قبل مئة عام قبلي، وصدف أن سكنت في شارع فيها مجاور للذي سكن فيه مع أمه وأخوته. وبرغم عبقرية جبران كان ابن لحظة تاريخية أخرى، وهو استمر في الكتابة بالعربية حتى عام 1918 حيث مارس دور المصلح الذي يريد تنوير المتحدثين بالعربية قبل أن يتحول إلى الكتابة بالإنكليزية، فأصبح متنبياً مشرقياً يريد أن يُحْضر روحانية الشرق وصوفيته إلى الغرب. وفي الحالتين أعتقد أن جبران يمثل حالة استشراقية يمكن أن تصبح نكتة إن قام بذلك كاتب أو شاعر عربي اليوم». وتابعت: «اعتقد أن وضع الكاتب العربي الذي يعيش في الغرب اليوم تغيّر كثيراً، وأصبح بإمكانه التعامل مع بلد الهجرة كوطن ثانٍ أو ثالث، كما أن الوطن الأم لم يعد شيئاً واحداً كاملاً، أي جنة أو جحيماً، ذلك لأنه هو الذاكرة». وأكملت مِرسال بعد لحظة تفكير أعقبت شفة قهوة من فنجانها: «الغربة كانت موضوعاً أساسياً للكتابة في القرن العشرين، لكنها لم تعد كذلك اليوم، بل أصبحت مجرد وضعية يتم فيها تفعيل الذاكرة بشكل جديد. الكاتب لم يعد ابن هوية واحدة صلبة تتعارك مع هويات متعددة، وأنا قادرة على تخيّل كاتب عربي اليوم يعيش في بيته الأول، ومع ذلك تتصارع في داخله هويات عدة. وفي ما يتعلق بي فأنا لا أعيش في منفى، وقد اخترت الرحيل عن بلدي، وهذا يختلف عن وضعية كاتب فلسطيني أو عراقي أو صيني أجبر على العيش في مكان ثانٍ، وغير مسموح له الرجوع إلى وطنه». وأردفت أن تجربتها في كندا كانت صعبة بكل المقاييس «لكن أن تبني بيتك الخاص وتصبح لك صداقات وحياة روتينية تُفاجأ بأن هذا المكان الغريب أصبح جزءاً منك». وعن العلاقة بين «المحلي» و«العالمي» في الأدب قالت الشاعرة المصرية إنها لا توافق على وضعهما وكأنهما ضدّان «فنحن جزء من العالم، ومن حقنا أن نشارك ونتعلم ونقدّم شيئاً إلى الإنسانية، والتعامل بندية مع الثقافات الأخرى قد يجعلنا أكثر إنسانية». وبالطبع، لإيمان مِرسال موقفاً واضحاً مما يجري في بلدها مصر الذي لا يزال يعيش أحداثاً مؤلمة. وعلى رغم معرفتها بتاريخ الإخوان المسلمين وأفكارهم كما ذكرت، شددت على أنها «لم تكن لتتخّيل هذا الحد من الفاشية منهم والجهل الشديد بتاريخ مصر وطاقاتها». وبعد أن أوضحت أنها محبطة إلى حد ما «من هذا العبث في إدارتهم لشؤون الدولة وفي تعاملهم مع قضايا أساسية مثل التعليم والفقر والثقافة» أعربت عن أملها بأن يكون الإخوان «مجرد مرحلة على طريق توصل مصر إلى ما هو أفضل». «فكرة البيوت» بعت أقراطي في محل الذهب لأشتري خاتماً من سوق الفضة. استبدلته بحبر قديم وكراس أسود. حدث ذلك قبل أن أنسى الصفحات على مقعد قطار كان من المفروض أن يوصلني إلى البيت. وكان كلما وصلت إلى مدينة بدا لي أن بيتي في مدينة أخرى. تقول أولغا من دون أن أحكي لها ما سبق: «البيت لا يصبح بيتاً إلا لحظة بيعه، تكتشف احتمالات حديقته وغرفه الواسعة في عيون السمسار، تحتفظ بكوابيسك تحت السقف نفسه لنفسك، وسيكون عليك أن تخرج بها في حقيبة أو اثنتين على أحسن الفروض». أولغا تصمت فجأة ثم تبتسم، مثل ملكة تتباسط مع رعاياها، بين ماكينة القهوة في مطبخها وشباك يطل على زهور. زوج أولغا لم ير مشهد الملكة، وربما لهذا لا يزال يظن أن البيت هو الصديق الوفي عندما يصبح أعمى، أركانه تحفظ خطواته وسلماته ستحميه برحمتها من السقوط في العتمة. (هذه القصيدة ألقتها الشاعرة مع قصائد أخرى في حفلة افتتاح المهرجان الشعري في برلين.)