بعد كتابه البديع «التجليات الروحية في الإسلام» يعود المستشرق الإيطالي الأب جوزيبي سكاتولين، من رهبنة الكومبنيان والأستاذ في المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية في روما PISAI، ليقدم عملاً فكرياً من أعمال الحوار الديني والتصوف، والهدف عنده كما يتضح من صفحات الكتاب هو «ثورة روحية متجددة» في زمن الرأسمالية المتوحشة والعولمة المفترسة للإنسانيات. لمن يكتب سكاتولين؟ لكل باحث صبور عن الحق، حتى يتجلى له الحق، وفيه تتجلى ذاته. يصدر المتصوف والمستشرق الإيطالي كتابه بعبارات من بسكال «ما كنت لتبحث عني إن لم تكن قد وجدتني، ولم تكن قد وجدتني إن لم أكن أنا قد وجدتك». تأملات سكاتولين في كتابه الجديد نتيجة سنين من الدراسات والتفكير والتدبر في مجال الحوار والتصوف والعلاقة بينهما، وليست مجرد دراسات أكاديمية معمولة بين الكتب. الجزء الأول من الكتاب يتطرق إلي موضوع الحوار الديني مع إبراز بعض من الملامح الأساسية لمضمونه وأبعاده في واقع حياتنا البشرية في عصرنا هذا، وهو عصر العولمة والقرية العالمية. ومن خلال قراءة هذا الجزء يستطيع القارئ أن يدخل في لب قضية الحوار الديني وأهمية الحياة الروحية فيه، إذ تمثل في رأي الكاتب بعداً مهماً لحوار ديني مثمر. أما الجزء الثاني فينقل القارئ إلى عالم التصوف أو الحياة الدينية الروحية، التي تمثل البعد الأسمى والأعمق في كل دين من الأديان العالمية، فهذه مادة واسعة لا يمكن إيجازها في بعض السطور. في كتاب الأب سكاتولين مواجهة عقلانية لإشكالية كبرى في عالم الفكر الصوفي، تلك المتصلة بفهم النصوص بحسب مضمونها الحقيقي، لا بحسب أفكار أو تصورات غربية أو أجنبية عنها، ناتجة من تصرف تعسفي، فيه الكثير من السطحية أحياناً، وبذلك يأخذنا الراهب الكمبوني إلي قضية «هرمنيوطيقا النصوص الصوفية التي شغلت ولا تزال تشغل الفلاسفة والمفكرين على مستوى العالم أجمع، وفي هذا السياق يقترح المؤلف تبصره الخاص في هذا الموضوع على أساس عمله الواقعي الذي أجراه على قراءة وفهم الأشعار الصوفية للشاعر الصوفي العظيم عمر بن الفارض (ت 632ه/1235م). وحتى يوضح الأب سكاتولين رؤيته في أبعاد الحياة الروحية أو التصوف، يقدم نموذجاً ملموساً لهذه الحياة الروحية مأخوذاً من الديانتين، المسيحية والإسلام. أما عن الديانة المسيحية فاختار المفكر المسيحي البارز أوريجانوس (ت 253 أو 254م) الذي يعتبر من مؤسسي الفكر الروحي الصوفي في المسيحية. وأما عن الديانة الإسلامية فاختار الشاعر الصوفي المصري عمر بن الفارض الذي يعتبر من أبرز أعلام الخبرة الصوفية في الإسلام. ولعل المثير الذي يكتشفه القارئ للكتاب هو أن نقطة التقارب بين خبرتين مختلفتين كتلك التي لاوريجانوس وهذه التي لابن الفارض تقع في اختيارهما طريق الحب الإلهي باعتباره الطريق المفضل لبلوغ غايتهما القصوى، ألا وهي اللقاء مع الله. لذلك يقدم صاحب الكتاب تجربتيها الروحية كنموذج للتشابه بل وللتواصل بين الروحانيات المختلفة مهما تباعدت مكاناً وزماناً... هل من مردود حياتي عصراني لمثل هذه الرؤية؟ بالقطع نعم، ففي النهاية سيبدو جلياً أن الخبرة الروحية الحقيقية تمثل أرضية واسعة للتقارب بل للتفاهم والتعاون بين أصحاب الأديان المختلفة، وهذا عمل في تقدير المؤلف يعد غاية في الأهمية في عصرنا لبناء إنسانية جديدة متجددة قادرة على التصدي لأخطار عصرنا الجسيمة الناتجة من عملية عولمة تسويقية صرفة مهيمنة على آفاقنا الحضارية من ناحية ومن عودة روح القبليات المتعصبة المتطرفة من ناحية أخرى. قراءة صفحات الكتاب وعبر المقالات المختلفة يقودنا إلي حقيقة مهمة للغاية يتوخى الكاتب أن تصل للأعماق الوجدانية لأي قارئ وكل قارئ، وهي أن الدخول في الحوار الديني لا يعني وضع الرؤية الإيمانية الخاصة بكل طرف منه بين قوسين، وكأن هناك عالماً حيادياً بين تلك الأديان المختلفة لا علاقة لها به فهذا موقف أصبح الآن مرفوضاً أكثر فأكثر عند المشتركين في اللقاءات الحوارية الدينية. وعلى العكس من ذلك كما يبين أكثر من مرة أنه على كل طرف أن يدخل في الحوار الديني بإيمانه الخاص، بغير تنكر. إلا أنه يجب في نفس الوقت أن ينفتح كل طرف في الحوار من داخل إيمانه على التعرف، بل التفاهم والتواصل مع الآخر المختلف، فهذا الاختلاف يمثل بلا شك غنى ثميناً لا يقتصر في الحوار الديني. هل تطابق قراءات ومقالات سكاتولين المفهوم السابق الذي ينبه إليه؟ إنه كذلك بالفعل إذ يجد القارئ في أبحاثه ما يعبر عن إيمانه المسيحي، كما تعلمه داخل جماعته المسيحية ويعيشه في حياته الواقعية بغير تحفظ، إلا أنه في نفس الوقت يحاول باذلاً أقصى جهده بأمانة وجدية أن يتقارب من الأديان الأخرى، وبخاصة الدين الإسلامي، بكل احترام وموضوعية، بل بكل تقدير ومحبة حتى درجة الإعجاب لما يجد فيه - على حد تعبيره - من ثروات روحية عميقة، تستحق أن تكون في متناول جميع الناس، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، إذ أنها تمثل جزءاً لا يتجزأ من التراث الروحي الإنساني. والثابت أن التفكير على هذا النحو لموقف جديد في العلاقات البين- دينية عامة، وتلك التي بين الديانتين المسيحية والإسلامية بصفة خاصة. في هذا الإطار يذهب سكاتولين إلي وجوب الاعتراف من قبل الكل وبكل صراحة وشجاعة بأنه غالباً ما ساد في الماضي على علاقتنا المتبادلة الكثير، بل الكثير جداً، من المواجهات والصدامات العنيفة، بل ومن الحروب المدمرة بكل وحشيتها. ويتساءل... هل هذا كان مفهوم الدين عند أجدادنا؟ كيف نبرر ضميرنا بل قل ضمير التاريخ، من تلك التراكمات الضخمة من العنف والقتل والدمار التي جرت على أيدينا باسم الدين؟ يقر الكاتب بأنه ليس هناك طرف برئ في هذا الشأن، وأن إنكار الحقائق التاريخية ليس بمفيد، إذ لا يغيره بلا شك، أن هذه الحقيقة التاريخية تجعلنا نفكر في ما قاله فيلسوف روماني عاش في القرن الأول قبل الميلادي وهو «طيطس لوكريسيوس كاروس» (ت 50ق.م تقريباً) معلقاً على عمل وحشي ارتكبه الملك اليوناني أجاممنون عندما قدم أبنته «أيفيجينيا» ذبيحة للآلهة لضمان سلامة سفر الأسطول اليوناني نحو طروادة في حربها الشهيرة، حيث دان مثل ذلك الدين الذي أباح مثل هذا العمل البشع. وكان هذا إنذاراً قوياً لخطر جسيم يواجهه كل دين وهو استعمال الدين لغير غايته من أمثال أغراض سياسية أو مصالح اقتصادية. لذلك يري المستشرق الإيطالي الأصل، أنه لا بد من ثورة عميقة تبدأ في داخل كل إنسان، خصوصاً في كل من يدعي بأنه متدين مؤمن، صورة أسماها في عنوان كتابه «ثورة روحية متجددة» لكي تتخلي إنسانيتنا المعاصرة عن تلك التبعية الثقيلة من الصدامات والحروب والقتل والدمار، فتدخل في عصر جديد، عصر يعيش فيه الناس في عالم أكثر أخوة وعدالة ومحبة. كيف للحلم أن يتحقق؟ لا يمكن في واقع الحال ذلك إلا من خلال ثورة روحية جادة تنفذ إلى صميم قلب كل إنسان فتغيره من أساسه، مستأصلة منه كل جذور الشر وزارعة فيه كل بذور الخير. هكذا سيفتتح كل إنسان على أخيه الإنسان الآخر المختلف ويحتضنه بكل العواطف الإنسانية الحقيقية. * كاتب مصري