أحد الأمور اللافتة في الفيلم التسجيلي الطويل «ليالٍ بلا نوم» للمخرجة اللبنانية إليان الراهب هويته السينمائية الخالصة. هي هوية تتقدمها لغة الجسد، بكافة إيماءاته، تلك اللغة القادرة على كشف أعماق الشخصيات وما يكتنفها من غموض وتيارات تحتية، وعواطف متناقضة عنيفة ومكتومة، رغم محاولات البعض أن يُراوغ مُدعياً النسيان، ساعياً للهروب من حصار الأسئلة النابشة في عمق التاريخ والذاكرة. تمنح «الراهب» شريطها المثير للجدل أسلوباً سينمائياً مدهشاً وأخاذاً، رغم بساطته. تمزج فيه بين التورط الشخصي العميق في الموضوع وبين الإنفصال والتباعد الفني والموضوعية في الطرح، وتجعل المتلقي شريكاً متورطاً معها، وهي ترسم بورتريه شديد التعقيد نفسياً، موسوم بالسحر رغم بشاعته. فأسلوبها الاستقصائي وقيامها بدور المحقق الذي يلاحق الشخصيات، وحضورها القوي أثناء المداخلات كان مهماً وجوهرياً إذ تمكنت من أن تكبح جماح الأكاذيب – التجميلية - التي كان من الممكن أن تتمادى فيها بعض الشخصيات، حتى نجحت إليان في فتح هذا الثقب الدقيق في الذاكرة الجمعية، وتمكنت من الوصول إلى اثنتين من المقابر الجماعية التي لم تنجح التحقيقات الرسمية في الوصول إليها من قبل. يدور الشريط حول شخصيتين رئيسيتين دراميتين. الأول هو أسعد الشفتري، 55 عاماً، مسؤول الأمن في الاستخبارات اللبنانية أثناء الحرب الأهلية (1975 -1990)، قام بعمليات قتل وخطف وسيارات مفككة وكل شيء يُمكن تخيله. هكذا يعترف مُقراً بمسئولياته ويعتذر بحق كل من أساء إليهم!. إنه لا ينفي أنه مذنب، لا يدعي أنه بريء، لكنه أيضاً يُؤكد أنه ليس المسؤول الوحيد عن كل ما حدث. الشخصية الدرامية الثانية هي مريم سعيدي الفنانة التشكيلية والأم المنكوبة التي فقدت ابنها الشيوعي البالغ خمسة عشر ربيعاً عام 1982 في معركة «كلية العلوم» ولا تعرف مصيره ولا أين دفن ضمن17 ألف مفقود. كان أسعد قائداً في تلك المعركة التي شارك فيها ابنها. تصوّر إليان الراهب الاثنين معاً وهما يتأملان الماضي، لكنهما لا يتواصلان في شأن الحاضر، فأسعد غير قادر على أن يبوح بكل الأسرار، مؤكداً أن ما لديه من معلومات هو جزئي – مجرد شقفة - لأن هناك شركاء آخرين. المواجهة المواجهة القاسية، الصادمة أحياناً، والناعمة في بعض المرات سمة تُصاحب الحوارات التي تسعى إلى اقتناص لحظة الاعتراف العميق حتى وإن لم تصل إليه علناً، لكن الكاميرا كانت هناك تدور وتُسجل وتلتقط أدق الخلجات النفسية عن ما لا تقوله الشخصيات، مثلما حدث مع قائد العمليات العسكرية بالحزب الشيوعي والذي ظل يدعي أن ماهر لم يكن مقاتلاً في الحزب، وأنه لا يتذكر شيئاً، مستنكراً إعادة فتح ملفات تلك القضية، بينما هو جالس في مقعده الوثير بملابسه الراقية وهيئته اللامبالية المتغطرسة معتقداً، وهماً، أنه يُخبئ أكاذيبه خلف الدخان المتصاعد من سيجاره الكوبي، بينما تُفسر الأم الموقف بأنه صار حليفاً لجلاد الأمس. اتخذت المواجهة أشكالاً وأطيافاً لكشف «التناقض» وتمحيص «الأكاذيب»، لتعميق الأمور وصولاً إلى أكبر مقدار ممكن من الحقيقة، وتقصي جوانب مختلفة من الصورة. عقدت مواجهة بين الضحية والجلاد، بين الجلاد ونفسه، بينه وبين زملاء شاركوه جرائمه، أو بينه وبين أسرته، أو بين أقاربه في غيابه. البعض – من الطرفين ضحايا وجلادين - رفض المواجهة واكتفى بالحديث صوتياً من خارج الكادر دون أن يظهر. والبعض الآخر اكتفى بوجود ظله على الجدران مُخفياً ملامحه. «أنا لا أريد أن أتحدث عن هذا» جملة ترددت مرات على لسان شخصيات عدة، لكن إليان لم تستسلم وظلت تواصل الاستجواب لإتمام فيلمها الذي نال جائزة جمعية نقاد السينما المصريين بمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة السادس عشر 4-9 يونيو. لعبت الراهب دور المحقق بحرفية. قامت برحلة من الاستكشاف المؤلم البطيء المراوغ. لم تكن تبدأ المواجهة بالصدام، بل بالحكي عن حياة الناس البسيطة والحميمة، تورطهم في النوستالجيا فتكسر الحواجز بينها وبينهم. تُسقط الدروع المشيدة حولهم. في لحظة التخلي عن الدروع تسقط الأقنعة وتنكشف كثير من الحقائق. تتركهم يبتسمون كالأطفال ثم تنقض عليهم فجأة بسؤال مُربك، مثلما فعلت مع والدي أسعد، إذ تركت الأب يستعيد حنينه إلى الماضي والأم تحكي لحظات الفرح عند مولد ابنهما، وكيف كان يُجيد الرقص، وأنها ألحقته بمدرسة مختلطة مع البنات، وفجأة تسألها الراهب: «رقص، ومدرسة للبنات... لماذا التحق بالكتائب وأصبح مقاتلاً إذاً؟» هنا يُدوي الصمت، بينما تتصدر المشهد لغة الجسد الكاشفة، ترتعش الأيدي، تنعقد الأصابع، تتبدل الوجوه، وتتحول الملامح الطفولية إلى الغضب البالغ حد الكره. يتبادلون النظرات. أخذتهم على حين غرة. تنطق الأم: «كان يدافع عن نفسه». ثم يبدأ الابن في ترديد أغنية عن العلم الملطخ بالدماء من أجل تحقيق الحرية. بدا جلياً نجاح الراهب في توظيف كل ما يخدم مادتها بصرياً وسمعياً، باستخدام المُسجل الصوتي والذي تُعيد سماعه أحياناً حتى نرى رد الفعل على وجوه الأشخاص وهي تنصت لنفسها أو وهي تستمع لآخرين، باستخدام كواليس التصوير التي لعبت دوراً كاشفاً لعدد من الشخصيات خصوصاً عندما طردوها. وبتوظيفها المؤثرات الصوتية بمهارة ومنها صوت السلاسل والحلقات المعدنية، وأغنية نجاة «يا مسافر وحدك». رمزية التصوير في «ليالٍ بلا نوم» موشى برمزية بالغة الدلالة، خصوصاً مع تلك المشاهد في مزارع الصيد، فعلى وقع أصوات طلقات الرصاص المتلاحق والمدوي، وعلى صوت ضربات الفؤوس تنهال على رؤوس الأرانب لتقطعها ثم الأيدي تسلخها كان هناك حديث دائر عن مقتولين ومفقودين وماضٍ ملطخ بالوحشية والغليان الطائفي. كذلك الأمر في ما يتعلق بوضعية أسعد. فتكوين الكادرات وتعدد زوايا التصوير بتعدد جوانب السرد أو الاعتراف، وتنوع حركة الكاميرا المهتزة قليلاً أو قليلاً في لحظات المناورة ومحاولة إخفاء حقيقة المشاعر أو الاختباء داخل حجج وذرائع النسيان، كان متناسقاً مع حالته الجوانية، ومنها مثلاً عندما نراه يُواجه صورته المنعكسة في المرآة مرتين، فيبدو وكأنه شخصين، ربما لذلك خصصت له المخرجة فصلاً بعنوان «المهرج» قرب نهاية عملها، كأنه بوجهين، فهو في رأيها لم يقل الحقيقة كاملة. وكذلك مشهده في معرض الصور الخاص بالمفقودين إذ نراه محاصراً بين صورة ماهر في الخلفية وجسد مريم في المقدمة، وكأنه مطارد بالماضي، بينما يقف أمامه الحاضر رافضاً التصالح معه.