يؤثر الكاتب العراقي علي خيون أن يجعل من عنوان روايته الأخيرة «رماد الحب» مفتاحاً أساسياً للولوج الى عالمها الكابوسي حيث الحب أقرب الى المرض أو اللعنة التي تورث الجنون والموت وحيث الرماد هو الحقيقة الوحيدة التي تؤول اليها المشاعر والمصائر. ولعل الكاتب يتصادى بذلك مع مقولة صادق جلال العظم الذي يقسم الزمن الى قسمين، زمن الامتداد الذي يمثله الزواج ويتسم بالبطء والرتابة والبرودة، وزمن الاشتداد الذي يمثله الحب ويتسم بالكثافة والتوتر والاشتعال السريع الذي يحرق كل شيء قبل أن يتحول الى رماد. لكن خيون يذهب بالمأساة حتى نهاياتها بحيث ان النار التي اشتعلت في أحشاء بطل روايته لا تلتهمه وحده فحسب، بل تحوِّل كل ما يحيط بحبه المجهض الى أنقاض. ذلك أن مسرح الأحداث، الذي هو العراق، يوفر للجريمة عدتها الكاملة قبل أن يقع بالكامل على رؤوس الجميع. ليست الصدفة وحدها إذاً هي من دفعت صاحب «رماد الحب» (دار الآداب)، الى المماهاة بين المسرح والحياة بل يعود ذلك الى رمزية الخشبة التي تتحول الى حياة مصغرة أو مكثفة من جهة والى عبثية الواقع العراقي الذي يجعل العلاقات الإنسانية الطبيعية متعذرة التحقق أو مفتوحة على التلف والتآكل. سقوط هكذا تبدأ الرواية بموت الممثل سعيد أدهم بعد أن سقط عن السلّم الخشبي الذي نضدت درجاته بغير إحكام أثناء تأديته مشهداً عاطفياً بالغ التوتر في مسرحية «الحب مرة أخرى» التي كتبها حامد العاشق وأخرجها ماهر السامي. وإذ كان السبب المباشر لموت أدهم ناجماً عن التفاتته المفاجئة الى الخلف ليتأكد من وجود زوجته شمس مما جعل السلّم ينهار تحت قدميه، فإن العبارة التي رددها المخرج السبعيني غير مرة «تلك هي تبعة الخروج على النص» لا ينحصر تأويلها في المعنى المباشر الذي تسبب بالسقوط بل في اللعنة الأصلية المرتبطة بزواج الممثل سعيد أدهم من شمس التي أحبها حامد العاشق بجنون قبل أن يفقدها بسبب غيرته المرضية. ليس ثمة من فسحة أمل تذكر في رواية «رماد الحب»، بل يبدو العالم برمته أشبه بمصح عقلي مبني على مقربة من مقبرة واسعة. فالكاتب المسرحي حامد الذي يتزوج من سمية استاذة التاريخ، لا يلبث أن يتعرض الى هجران امرأته وابنته له بعد أن تعثر سمية في حقيبته السوداء، التي عمد جنود الاحتلال الى فتحها للاشتباه بما تحتويه، على صور حبيبته الأولى شمس ورسائله الغرامية المشبوبة لها. وإذ يظن حامد الذي أعطى ابنته اسم شمس تيمناً بحبيبته الأولى التي أعطت ابنها في المقابل اسم حامد، أن فرصة استعادة المرأة التي أحبها قد حانت إثر مقتل زوجها لا يلبث ان يقع في وهدة اليأس مرة أخرى حين يعرف بأن والد شمس وابنها الوحيد قد أطاحت بهما عبوة ناسفة أثناء قدومهما الى المنزل للتحقق من موت سعيد. أما ثالثة الأثافي فتمثلت بمصرع المخرج ماهر السامي في انفجار غامض لم تفصله سوى ساعات قليلة عن الانفجار الأول. ولم يكد الكاتب المسرحي حامد يلتقط أنفاسه بعد خلو المسرح من معظم لاعبيه حتى فاجأه خاله رضوان الذي تولى تربيته بعد مقتل والديه في حادثة سير بأن أباه كان يشك بخيانة أمه له وأن الذي أنقذه من الموت حين كان جنيناً في بطن أمه المحتضرة لم يكن سوى الممثل سامي أدهم بالذات. هكذا لا يكاد القارئ يخلص من مفاجأة إلا ليقع في مفاجأة أخرى حيث تندرج الرواية صعوداً وهبوطاً عاكسةً من خلال فصولها العشرين مناخات مثقلة بالقلق والأسئلة الصعبة حول الحب والغيرة والخيانة والنزوع الى التدمير. فإذا كان البطل حامد يرى في حبه لشمس انعكاساً لصورة الحب المؤثرة واليائسة التي تجسدت في عروة وقيس وجميل قبل مئات السنين إلا أن نزعته التدميرية لم تقتصر على تدمير نفسه كما فعل العشاق العذريون بل على تدمير كل من يقف عائقاً بينه وبين من يحب حتى ولو كانت المحصلة موت الجميع وسقوط الهيكل على من فيه. ولم تكن المأساة لتصل هذه الذرى لولا تضافر بذرة الفساد المعششة في قلب الحب نفسه، بما هو نزوع الى التملك والاستحواذ حيناً والى الامحاء المازوشي حيناً آخر، مع الوضع السياسي والاجتماعي للعراق الممزق بين الديكتاتورية المطلقة والاحتلال الأجنبي. في مناخ كهذا لا يمكن العقل أن يقود اللعبة الى بر الأمان، بل ان ما يتحكم بالمصائر ليس سوى الغرائز المدفوعة الى ذروتها تحت مسمى الحب أو العاطفة الجياشة التي سرعان ما تنقلب الى نقيضها. وفي مناخ كهذا محكوم بالاستبداد والجشع والتسلط الذكوري أو بانفلات الأمن على غاربه، يصبح الشك بالآخر، أي آخر، هو اليقين الوحيد، وتصبح الخيانة تهمة معلبة وجاهزة يستعد كل واحد لأن يقذفها في وجه الآخر. الكل هنا جلادون وضحايا في آن واحد، الكل قاتلون ومقتولون، متهَمون (بفتح الهاء) ومتهِمون (بكسرها). وإذ يشعر حامد العاشق بانسداد الأفق أمامه يفعل ما فعله غريمه سعيد أدهم ويصعد فوق سلّم هش باتجاه الأعلى حيث يسلم جسده الثقيل الى المروحة المثبتة بغير إحكام في سقف الغرفة ثم لا يلبث أن يسقط باتجاه الأرض جثة هامدة. تفيد رواية علي خيون في شكل واضح من تقنية التقطيع المسرحي والمشهدي السينمائية حيث اللغة مختارة بدقة بعيداً من الإفاضة.