كما تدور عجلات السيارة، دارت الحياة بالموسيقي الفلسطيني رمضان خطاب. صادق تلك الدوائر المصنوعة من المطّاط منذ نعومة أظافره، ليبدّد ظلم الحاجة والظروف المعيشية التي عانت منها عائلته واضطرته لترك مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية. ساعد والده في إصلاح عجلات السيارات في عمّان حيث كانت تسكن العائلة. وبعد انتقالهم الى رام الله في الضفة الغربيةلفلسطين، استمر بالعمل المضني دون كلل. لكن هذه العجلات السود المُتعبة عرّفته بالموسيقي محمد فاضل الذي فتح له أبواب الجنة الموسيقية وتحقيق حلم الطفولة بالعزف على آلة الكونترباص. شقيق رمضان الأكبر محمد سبقه الى الالتحاق بالعمل مع الوالد وإلى التفرّغ للفن والرقص الشعبي الذي كان يتقنه، فتمكّن رويداً رويداً من المشاركة في عروض فرقة الفن الشعبي الفلسطيني، ليصبح بعدها مصمم رقص. محمد أشرك رمضان في همّه الفني، وصار الأخ الأصغر عضواً في الفرقة، يرقص ويشارك في العروض. ذات يوم قرّر الحظ أن يلعب دوره مع هذا الشاب الشغوف بالمعرفة، فزاره الموسيقي محمد فاضل في مكان عمله ليصلح عجلة سيارته. ودعا خطاب إلى زيارة المعهد الموسيقي الذي كان قيد الإنشاء والذي يشرف عليه الموسيقي المعروف سهيل خوري. فلم يكذّب الشاب الخبر. ولما رآه هناك، نظر فاضل الى كفّي رمضان واقترح عليه عزف الآلات الوترية، بحكم توافرها. ويروي خطاب: «نصحني محمد فاضل أن أتعلم العزف على آلة الكونترباص، الا ان المعهد لم يكن فيه أستاذ متخصص في تعليم العزف على هذه الآلة. لكني تعرفت على بينا زبيدي المتخصصة في تعليم العزف على آلة التشيلّو في مدينة نابلس. كنت أحمل الكونترباص، أستقلّ التاكسي، وأذهب إليها مرة كل شهر كي أتعلم». بقي خطاب يتنقل بين دروس الموسيقى و»الكراج»، باحثاً عن فرصة أفضل للتعلم والتطور. فأتاه الحلّ من خلال منحة للدراسة في فرنسا للتعلم على آلته المفضّلة الكونترباص. فرحت العائلة بالمنحة، شقيقه محمد ووالده شجعاه على ترك كل شيء والالتحاق بالدراسة. ويتذكر خطاب: «في فرنسا كانت التجربة مختلفة، بدأت أتعرف أكثر على آلتي الموسيقية وعلى الناس، كان عمري 26 سنة، عانيت كثيراً من صراع داخلي ثقافي وحضاري واجتماعي. فالمرحلة التأسيسية للتعلم تبدأ منذ الطفولة، لكني بدأت من الصفر في ال 26 من عمري... التحدي كبير بالنسبة إلي». وليعوض خطاب السنوات التي ضاعت من عمره، بدأ يتدرب كل يوم 11 ساعة متواصلة للوصول الى مرحلة متقدمة من العزف على آلته الكبيرة، وذلك في ظل الصعوبات الكبيرة التي واجهها في فرنسا والتي تبدأ باللغة ولا تنتهي عند طريقة الحياة. لكن الشاب العصاميّ نجح في الامتحان، وأصرت معلمته على أن يكمل تعليمه. «استطعت أن أنجز خلال 5 سنوات فقط كل ما يلزم لأكون عازف كونترباص محترفاً»، يقول خطاب الذي مكّنته سنوات التعليم في معهد بيت الفن في مدينة آنجيه الفرنسية ليكون مساعداً لمعلمته. وبدأ حلمه النغمي يصعد درجة درجة كنوتات الموسيقى الذي كان هاجسه إكمال الدراسات العليا. لكن سنّه حالت دون ذلك ولم يستطع الانضمام الى المعهد العالي للموسيقى في باريس الذي يعتبر من أشهر المعاهد على مستوى العالم. لكنه كان مصرّاً على إثبات نفسه وموهبته وتفوّقه، فطلب أن يمتحنه المعهد وأن يحصل على النتيجة فقط. طبعاً نجح رمضان في الامتحان، وفتح أمامه هذا النجاح باباً آخر الى جنة الموسيقى، إذ تعرّف على أحد أعضاء لجنة التحكيم في المعهد الباريسي الذي طلب منه العمل معه في التدريس في معهد «أورسيفل» في باريس. موسيقى ضد التهميش استفاد خطاب من المنحة التي أعطيت له لمدة سنتين. لكن كان عليه العمل من أجل إكمال دراسته في مدينة النور، فعزف مع فرقة فرنسية في مترو الأنفاق في باريس، كما درّس في معهد لتعليم الأطفال. واستطاع أن يؤلف الموسيقى لمسرحية (40 دقيقة) تتناول الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويعزف فيها. عاش رمضان تلك الفترة وهو مأخوذ نحو وطنه، فاستطاع أن يشرك معه فنانين وراقصين في عمل فني يحاكي ما يعانيه الفلسطيني تحت الاحتلال. وجالوا معاً في مدن فرنسية عدة، عارضين المسرحية التي لفتت الأنظار ونجحت في تقديم الواقع الفلسطيني وفي تقديم موهبة رمضان. حاول الشاب العنيد الحصول على تمويل لإكمال دراسته، لكنه لم يجد من يساعده، فعاد الى رام الله، وانخرط في المعهد الوطني للموسيقى في نابلس الذي يسمى الآن «معهد إدوارد سعيد للموسيقى» حيث أصبح مديراً أكاديمياً. واستطاع تحويل كل سنوات الجهد والحرمان الى طاقة موسيقية يقدمها لأطفال القرى المهمشة، معتبراً أن «الإنسان قادر على صنع مستقبله، فالحياة بالنسبة إلي مثل سلم أصعده وهناك من يصعد أمامي وخلفي. عزفت مع أشهر الفرق الموسيقية داخل فلسطين وخارجها، وأعتز بالماضي الذي عشته، إلا أن دوري الآن اختلف وأصبح نضالياً من خلال الموسيقى».