في كتاب «صور التخييل في الشعر العربي الحديث، بحث في الإليغوريا» (دار التنوير 2013) يبحث الناقد التونسي فتحي النصري في مختلف تجليات الأليغوريا في الشعر العربي الحديث. والأليغوريا هي صورة مجازية تنسج من مادة سردية وتنطوي دائماً على معنًى ظاهرٍ وآخرَ خفي. يقول الناقد إن الذي حفزه على الاهتمام بهذه الصورة الشعرية أمران، أولهما غفلة معظم دارسي الشعر الحديث عنها على اطرادها في مدونته. وثاني الحافزيْن شيوع حكم جمالي يغض من قيمة الإليغوريا مقارنة بالرمز أقرب الصور إليها ويعتبر أن طاقتها الشعرية محدودة، وهو ما يحول دون استجابتها لتطلعات الشاعر الحديث... ومن مقاصد هذه الدراسة الاستدراك على هذا الرأي وربما تفنيده. ولا شك في أن التحول الذي طرأ على الموقف الجمالي الغربي من الإليغوريا كان من الأسباب العميقة التي حفزت الباحث على إعادة النظر في قيمة هذه الصورة الفنية. فبعد أن كان الاشتغال بها مقتصراً أو يكاد على المتخصصين في الأدب القروسطي باعتبارها أساس بنيته البلاغية، تجدد الاهتمام بها في العقود الثلاثة الأخيرة بوصف هذه الصورة من أخص خصائص الشعرية الحديثة وربما ساهم في إعادة الاعتبار إليها تجدد الدراسات البودليرية من ناحية وتزايد الاهتمام بأعمال وولتر بنيامين من ناحية أخرى. قسم الناقد عمله إلى مقدمة وقسمين. في القسم الأول تأنى في الإحاطة بمفهوم الإليغوريا وقد ذكّر، على وجه الخصوص، بتاريخ استخدام هذا المصطلح في الثقافة الأوروبية. إذ كانت تحيل عبارة الإليغوريا على ظاهرتين مختلفتين وإن كانتا مترابطتين. فهي تشير من ناحية أولى إلى طريقة في القول وأسلوب في الكتابة، ومن ناحية أخرى إلى منهج في القراءة. ومهما يكن فإن مفهوم الإليغوريا يؤول دائماً إلى أمر واحد وهو ازدواجية المعنى في النصوص. أي إن المقصود بالقول شيء آخر غير ظاهره. ويتجلى هذا أقوى ما يتجلى في التأويل الإليغوري للكتاب المقدس إذ اعتبرت كل وقائع العهد القديم بمثابة صور أو نماذج تعلن بطرائق كنائية عن أحداث واقعية. ويذهب الكاتب إلى أن الأليغوريا بلغت ذروتها في القرن الثالث عشر. وأدركت مثالها الجمالي في نص «قصة وردة» وهو قصيدة طويلة في فن الهوى بدأ بتأليفها غيوم دي لوريس وأكملها جان دي منغ وتروي قصة شاب يرى في المنام أنه دخل حديقة وعشق برعم وردة وحالت دونهما شخصيات مثل «خطر» و «خجل» و «خوف»، وهي تولت حراسة الوردة في القلعة. غير أن البطل لا يستسلم لهذه الشخصيات ويظل يسعى إلى الوصال بمساعدة «رجاء» و«حب» و«صراحة». ويعلق الكاتب على هذه القصة قائلاً: «إن هذا التشخيص الذي يحول ماهيات مجردة إلى كائنات إليغورية يعد إلى جانب الازدواج واسترسال الاستعارة أساس البناء الإليغوري في أدب العصر الوسيط». وفي العصر الحديث ظلت الإليغوريا، وإن غض بعض النقاد من وظيفتها الجمالية، شكلاً فنياً أساسياً في الأدب الغربي. وتكفي الإشارة، في هذا السياق، إلى حضورها الغامر في ديوان بودلير «أزهار الشر» كما وظفها إيطالو كالفينو في بناء أعماله الروائية. إن الإليغوريا تقتضي عبارة مسترسلة لأنها تنبني بمحتوى سردي وتنسج من مادة تخييلية وتقوم على إحياء عالم يوافق كل عنصر من عناصره، عنصراً من عالم آخر. فهي نظام من العلاقات بين عالمين يحيل أحدهما على الآخر بطريقة رمزية أو استعارية. في القسم الثاني من هذا العمل انعطف الكاتب على «الإليغوريا في الشعر العربي الحديث بالنظر والتأمل»، واستهل هذا القسم بتأمل الحكاية المثلية في قصائد أحمد شوقي بوصفها أبسط أنواع الإليغوريا التي تنطوي على مغزى أخلاقي أو سياسي أو ديني. وانتقل بعد ذلك إلى الإليغوريا في الشعر الرومنطيقي ليتأمل بخاصة قصائد مجموعة من الشعراء الرومنطيقيين من أمثال إيليا أبي ماضي ونسيب عريضة وأبي القاسم الشابي، مؤكداً أن لهذه الصورة حضوراً قوياً في مدونة هؤلاء. أما موقف الرومنطيقية الغربية الذي يغض من شعرية الإليغوريا فلم يكن له تأثير يذكر في الرومنطيقيين العرب. ويلاحظ الناقد وجود فوارق واضحة بين الرومنطيقيين في استخدام هذه الصورة. فإذا كانت الإليغوريا عند أبي ماضي أقرب إلى البساطة لاقترانها بفكرة محددة أو مغزى تعليمي فإنها عند نسيب عريضة تتسم بتنوع نماذجها إذ تكتسب بانصهارها في نسق فكري رومنطيقي عمقاً يعزز طاقتها الشعرية ويبرز قيمتها الجمالية. أما الإليغوريا عند أبي القاسم الشابي فهي لا تشغل القصيدة بأكملها وإنما تشغل فضاء محدوداً من النص. تصورات شعرية يعرج الناقد في القسم الثالث على الإليغوريا في الشعر الحر موضحاً أن تصورات الشعراء الرواد كانت تتغذى من مفهوم المحاكاة وتولي الوظيفة التمثيلية أهمية خاصة. وهو ما أفرز، في نظر الناقد، موقفاً فنياً صريحاً داخل هذه الحركة يزكي تسريد الشعر ويعلي من شأنه ويعده بلاغة جديدة ومظهراً من مظاهر التجديد في القصيدة الحديثة. ويتأمل هذه الصورة لدى عدد من الشعراء مثل صلاح عبد الصبور وسعدي يوسف ومنصف الوهايبي ومحمد الخالدي. فالإليغوريا لدى صلاح عبد الصبور تتفاوت من حيث قيمتها الفنية. فقد تكون أدنى إلى البساطة على غرار ما ورد في قصيدة «رحلة في الليل» وقد تكون أكثر تكثيفاً وعمقاً كما هو الشأن في قصيدة «رسالة إلى امرأة طيبة». هذه الصورة قد تحيل إلى وقائع سياسية وقد تستعمل لذاتها أي لقيمتها الجمالية باعتبار أن طبيعة الشعر تنبو عن التقرير وتجنح إلى التعبير عن طريق الصورة. وهذا ما يمكن أن يستخلص من قصائد باشر فيها الشاعر معاني تتصل بعاطفة الحب بأسلوب إليغوري منها «العائد» و «طفل». ويتأنى الكاتب عند قصيدة «ذكريات» المقتطفة من ديوان «الناس في بلادي». وانبنت هذه القصيدة على حكاية اليغورية يوشحها الغموض وقد جعل منها الشاعر أساس خطته لبناء النص وإغراء القارئ به، ثم يلتفت الناقد إلى تجربة سعدي يوسف وهي التجربة التي احتفت بالإليغوريا احتفاء قل نظيره. وسعدي يوسف مثل الشاعر المصري كثيراً ما يوظف هذه الصورة للتلويح لقضايا سياسية تحاشى الخوض فيها بأسلوب مباشر حتى أن بعض قصائده تبدو أحياناً، في نظر الباحث، أشبه برسائل مسننة/مشفرة يحملها موقفه من بعض الأحداث السياسية التي تشهدها بلاده أو المنطقة العربية عامة. هذا ما توحي به قصائد مثل «الشخص السادس» و «الرايات» و«القبو»... فهذه القصائد، كما يقول الكاتب، تشترك في كونها تنطوي على صياغة إليغورية. وفي أحد فصول الكتاب عاد الباحث إلى أهم قصيدة إليغورية في مدونة سعدي يوسف وهي قصيدة «الأخضر بن يوسف ومشاغله» وعمد إلى تحليلها مقطعاً بعد آخر ليصل إلى نتيجة مفادها أن الإليغوريا في هذه القصيدة تستدعي اجتهاد المتلٌقي ومشاركته في إنتاج الدلالة. وفي الفصل الأخير تناول الناقد تجربة المنصف الوهايبي بالدرس والتحليل مؤكداً تواتر الصور الإليغورية في مدونته تواتراً واضحاً. فمن خصائص قصائده الأخيرة انبناؤها على حكاية تتصل بعالم الحيوان مما يجعلها مفتوحة على شتى القراءات والتأويلات. واهتم الباحث على وجه الخصوص بقصيدتين هما «استراتيجية الديك» و «اكواريوم لمروان» وفي كلتا القصيدتين بنى الشاعر حكايتيه على الإليغوريا حيث توسل بالعناصر القصصية من شخصيات وأحداث وإطار مكاني وزماني ليمنح قصيدتيه بعداً إيحائياً/ رمزياً. إن وضع الإليغوريا في الشعر الحديث قد سمح للناقد باستخلاص أمرين: الأول أن خلو التراث العربي من هذه الصورة البلاغية أضفى على استخدامها جدة وطرافة. والثاني أنها استجابت لتحولات الشعرية فاكتسبت بالتدريج سمات الكثافة والغموض والتعدد الدلالي التي ترسخت على مراحل في الشعر العربي في العصر الحديث.