يبدو أن نجاح الإخوان المسلمين في مصر وتونس، والميل العام لانتصار الإسلاميين عموماً، فرض أن يصدّق ما يقال عن الأسلمة في الثورة السورية، من دون تدقيق أو تناول نقدي. لهذا انقلبت مواقف بعض القوى والنخب بسرعة شديدة من دعم الثورة إلى التشكك فيها. لعب الإعلام الخليجي دوراً مهماً في نقل صورة «متأسلمة» عن الثورة السورية منذ البدء، وكان واضحاً أن هناك من يريد الأسلمة، التي كان إعلام السلطة قد جعلها محور خطابه عن الثورة، حيث قرّر مسبقاً أن مواجهة الثورة تفترض تشويهها، لتخويف قطاع كبير من المجتمع (من الأقليات الدينية كما من الغالبية الدينية)، لأنه في ذلك يكسب تماسك قوى اجتماعية خلفه. ويبدو أن قوى «معارضة» سورية رأت في ذلك فائدة لها، وهنا كان لابتعاد جماعة الإخوان المسلمين عن سورية بعد الصراع الطائفي الذي بدأوه نهاية السبعينات والرد الوحشي للسلطة، أن أدى إلى زيادة في التعصب، والفرح بأن تظهر الثورة ك «ثورة إسلامية»، من دون التفات إلى الأخطار التي يمكن أن تنتج من ذلك، والتي تعرفها السلطة وتشتغل عليها. هذا الوضع جعل للثورة صورة في الإعلام هي غير الواقع، حيث كان المطلب الأساسي إسقاط النظام. والمشكلة التي وسّعت من طغيان صورة الإعلام تمثلت في أنها باتت تؤكد «المنظور الغربي» الذي لا يرى في المنطقة سوى أديان وطوائف، وتأسست «أيديولوجية» كاملة تقوم على التخويف من الإسلام (الإسلامفوبيا). لكن ربما لم يكن هذا الأمر كافياً لتعميم صورة «أصولية» للثورة. فهذا الشكل المنقول إعلامياً كان يتمظهر في «وجود حقيقي» على الأرض، بين المتظاهرين وخصوصاً بعد أن أصبحت الثورة مسلحة. وهو وجود تمثل في اسماء الكتائب المسلحة وفي مظاهر المقاتلين، وفي وجود بعض الكتائب «الإسلامية»، مما كان يظهر طغياناً للمقاتلين «الإسلاميين»، وبالتحديد بعد تشكيل جبهة النصرة. أولاً، يمكن الإشارة إلى أن الأزمة المجتمعية التي تمظهرت في زيادة البطالة والفقر فرضت أن يميل قطاع من الشباب إلى الأسلمة كعزاء روحي لانسداد الأفق الذي يعيشه. وهذا كان يظهر لدى فئات مجتمعية مختلفة، لكنه كان واضحاً لدى الفئات الأكثر فقراً. وقد اتسم ذلك بكونه «تديناً شعبياً» بلا أدلجة أو انتماء سياسي، ربما في بلدان أخرى كان بعض هؤلاء ينخرط في الحركات «الجهادية»، وفي سورية انخرط البعض في هذه الحركات، لكن الحالة العامة تمثلت في انتشار التدين الشعبي. هذا ما ظهر في الثورة السورية عبر الشعارات بعد أن استطاعت السلطة تدمير التنسيقيات التي تشكلت مع بدء الثورة والتي كانت تضم «نخباً» شبابية، وشباباً وكوادر لهم علاقة بالمعارضة (واليسارية خصوصاً)، حيث تزايدت الهتافات التي تشير إلى الدين (الله، والجنة...). لكن هذه المرحلة شهدت أيضاً شعارات مهمة لها دلالات سياسية كبيرة، مثل «لا سلفية ولا إخوان»، في سياق رفض خطاب السلطة الذي كان يركز على سلفية الثورة وإخوانيتها. وهي شعارات شعبية بامتياز، لأن المعارضة كانت تميل الى التقرب من الإخوان المسلمين، وكان خطابها يتمحور حول «سبّ» السلطة. وهو شعار انتشر في كل سورية التي كانت تتظاهر حينها، أي خلال الأشهر الستة الأولى من الثورة. ثانياً، ربما كان الانتقال إلى العمل المسلح بعد التصاعد الشديد في عنف السلطة، خصوصاً حينما أصبح الجيش قوة الصراع مع الشعب، قد ارتبط ب «الأسلمة». على رغم أن المسلحين كانوا من المنشقين عن الجيش، ومن المتظاهرين أنفسهم، وهؤلاء وأولئك لم يكونوا «متأسلمين» سوى بالحدود التي أشرت إليها للتو. لكن بدأ يظهر أن أسماء الكتائب المسلحة «إسلامية» وأطلقت اللحى. هذا الوضع بدأ يؤكد خطاب السلطة من جهة، وخطاب الإعلام من جهة أخرى. في جانب، ارتبط ذلك ب «التمويل» الذي كان يفرض هذه التسميات، وهو قادم من الإخوان المسلمين خصوصاً (الذين بدوا كواجهة لدول خليجية). ولا شك في أن الانتقال إلى السلاح كان يفرض الحاجة إلى التمويل من أجل العيش كما من أجل الحصول على السلاح. وعلى رغم أن في ذلك مقداراً من الصحة، فإن الأمر ربما كان أعقد من ذلك، حيث ليس من السهولة على شباب تمرّد على سلطة وحشية أن يغيّر من هدفه ببساطة، فقط لأنه يحتاج إلى المال. أظن أن هذه الحاجة ارتبطت، من جانب آخر، بعنصر أساسي يتعلق بالصراع مع السلطة ذاتها، وفي الرد على خطابها. فإذا كان الشباب قد رد على خطاب السلطة المتهم بأن الثورة «إسلامية» برفض الربط مع السلفيين والإخوان، فقد اصبح الرد بعد أن تصاعدت دموية السلطة وظهرت وحشيتها، هو «تلبُّس الحالة»، أي الانتقال إلى تمثّل الحالة التي تفترضها السلطة. بالتالي أتت هذه الحالة في سياق التحدي الذي يفرضه العنف الوحشي. ولم تأتِ في سياق «أسلمة» بالمعنى الأيديولوجي. لهذا نجد أن الكتلة السياسية من المسلحين، والذين ينشطون في كتائب ذات تسميات «إسلامية» لا يختلفون عما كانوا، كشباب يريد إسقاط النظام، ومقتنع ب «لا سلفية ولا إخوان». هذا ما يظهر حين الاحتكاك بهؤلاء، وهو الوضع الذي يرفض الإعلام نقله. هذا الوضع ربما يوضح أنه يجب التمييز بين الأشكال والصور وبين الواقع الذي لا يزال يشير إلى أن الثورة شعبية على رغم كل هذه الأشكال والصور، وأن القوى الأصولية ما زالت هامشاً فيها. * كاتب فلسطيني/سوري