يكاد الخلاصيون، دينيون وغير دينيين، يجتمعون على ضرورة القبض على الجسد والبدء بهندسة اجتماعية تضيّق الخناق على المختلف والمتنوع والمستقل والحرّ ليسهل عليهم القبض على السلطة وحماية نفوذهم. إذا صحّ هذا الأمر قد لا يعدو محض مصادفة أن يتزامن، مثلاً، إطلاق حركة «حماس» في غزة حملة «ارفع سروالك» و «حماية الرجولة» ممن يحاول «إخفاضها» على حد تعبير الحركة مع انتقاد مسؤولين في مصر اليوم فن «الباليه» ووصفهم إياه بأنه «فن العراة»، وظهور «حملة تصحيح الحجاب» في بعض المدن العراقية، «تحذر المرأة العراقية من ارتداء الحجاب بطريقة معاصرة، كما تفعل كثير من الفتيات والنساء أو ارتداء الألوان الزاهية والأحذية ذات الكعوب العالية»! وإذا حصرنا حديثنا هنا بما يجري في مصر، فلا أعتقد أنّ تديّن المصريين أصبح أفضل أو أكثر عمقاً بوصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر. هذا الأمر يلقي مزيداً من الضوء على فكرة تحتاج اليوم إلى كثير من النقاش والنقد والتفكيك، وهي أن حركة «الإخوان المسلمين» إنما قامت تحت حجة أنّ الدين في حاجة إلى حركة سياسية أو حكومة أو دولة يكون هدفها إقامته بين الناس، وتحت هذا العنوان تندرج الدعوات إلى «تطبيق الشريعة»، ولعل هذا ما يعبّر عنه الشيخ يوسف القرضاوي بقوله «الإسلام أوسع وأكبر من كلمة دين»! والحقيقة أن المصريين بتديّنهم الفطري وإيمانهم العفوي، إنما ينقذون الوسطية والانفتاح والاعتدال والتنوّع في الإسلام أكثر مما يفعل «الإخوان» الذين يميلون في وعيهم الديني الذي لم يتعرض لما يكفي من جرعات الإصلاح إلى أن يوكلوا أمر «حماية الدين» و «إنقاذه» إلى نص دستوريّ أو إلى حكومة أو حزب يرفع لواء الإسلام وشعار «تطبيق الشريعة»، من دون الالتفات إلى أنّ ذلك، في الحقيقة، يقيّد الدين ذاته، ويسلب الأمة والمجتمع وظيفة صون الشريعة. وهذه المقاربة التي يلفت النظر إليها رضوان السيّد، إنما تعني بطلان فكرة أنّ رفض الكثيرين الخيار «الإخواني» أو السلفي هو رفض للفكرة الدينية أو التدين، بل هو على العكس حماية للفكرة الدينية من الاستغلال السياسي والتوظيف المصلحي والحزبي، ورفض لفرض نمط من التديّن خشنٍ وسالبٍ للحرية الإنسانية ومصطدمٍ مع قيم العصر وروحه. العالم العربي تعرّف إلى أهمية مصر وتأثيرها ليس بسبب كونها الدولة العربية الأكبر من حيث عدد سكّانها فقط، بل بسبب «قوتها الناعمة» التي تمثّلت في الأدباء والكتّاب والروائيين والشعراء والجامع الأزهر ومكتبة الإسكندرية وأهل الفن والموسيقى والسينمائيين والأكاديميين الذين نسجوا على مدى سنين طويلة هوية مصر ومزاجها، ووضعوا معيار قوتها وضعفها، فهي تضعف حين تذبل قوتها الناعمة وتقوى حين تبدع أكثر وتقدّم المزيد من أمثال رفاعة الطهطاوي وطه حسين وأم كلثوم ونجيب محفوظ وعبدالباسط عبدالصمد وفاروق الباز ويوسف شاهين... فهؤلاء وغيرهم كثيرون هم أهرامات مصر الحديثة. ما يلفت أننا لا نكاد نعثر على بصمات واضحة ل «الإخوان» في قوة مصر الناعمة، فالمساهمة «الإخوانية» في تلك القوة تبدو وكأنها معدومة، أو كأن الجماعة على خصومة مع هذه القوة، فالعقود الثمانية من عمر الجماعة لم تصنع روائياً كبيراً أو مخرجاً سينمائياً مبدعاً يكون «نصيب» الجماعة من تلك القوة الناعمة، أو من مزاج مصر وطقسها المميز عربياً. ليست استقالة الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي أخيراً من رئاسة تحرير مجلة «إبداع» ومن «بيت الشعر المصري» الذى يرأس مجلس إدارته سوى امتداد لأزمة تتصاعد في صفوف المثقفين والفنانين المصريين الذين يحسّون أن حُكم «الإخوان المسلمين» يقول لهم مراراً وتكراراً إنهم غير مرغوب بهم! عبدالمعطي قال في بيان استقالته ضد وزير الثقافة الجديد علاء عبدالعزيز ما أراد قوله أحمد فؤاد نجم وبهاء طاهر وجمال الغيطاني والموسيقار عمر خيرت وصلاح المليجي (رئيس قطاع الفنون التشكيلية) وإيناس عبدالدايم (رئيس دار الأوبرا)... وغيرهم كثيرون، حيث أعلن معطي أن استقالته تأتي «احتجاجاً على ما يقع الآن للمثقفين المصريين، ورجال القضاء ورجال الإعلام على أيدي «الإخوان المسلمين» وحلفائهم»، واعتبر حجازي أن ما يحدث «خطة مدبرة للانفراد بالسلطة والبقاء فيها وتزوير التاريخ وانتهاك الحقوق والعدوان على الحريات والتنكيل بالمعارضين». والحقيقة أن الخطاب «الإخواني» بشقه الديني لم يفلح في «مخاطبة المؤمنين وغير المؤمنين بعقل مشترك»، بلغة ياسين الحاج صالح، وذاك الخطاب بتشدده السياسي مع الفرقاء الآخرين يفشل في بلورة توافق وطني يكون نواة لتشكيل عقل سياسي مشترك يدير الشأن العام وصراعاته وإشكالاته بعيداً من تديينها، عبر توظيف الدين لإثارة الشكوك في وطنية المعارضين وصحة إيمانهم وصدق نواياهم، أي أن يتحول الدين إلى سلطة مطلقة، وأداة انقسام وفرقة، وبذلك تذوي طاقته الأخلاقية الجامعة. المصريون وغيرهم لم يثوروا على الأنظمة الفاسدة لأنّ دينهم ناقص ويريدون إكماله، وهم لم يثوروا لأن «الشريعة في خطر»، كما تروّج ثقافة «الإخوان» والسلفيين، بل ثاروا من أجل حياة كريمة وحريات أوسع وتنمية عادلة ومحاربة للفساد المالي والسياسي والإداري، ولسان حالهم في ذلك: الدين بأحسن حال حين تُصان الحريات ويُحارب الفساد ويسود حكم القانون وتترسخ المواطنة المتساوية. * كاتب أردني